يحدث قبل كلّ فعالية فنية أو مهرجان في العراق أن يستعد القائمون عليها للهجمات والاحتجاجات عبر الإعلام، ومواقع التواصل، من قبل عناصر يتبعون مؤسسات دينية، وتدعمهم أحياناً مجاميع مسلحة ومليشيات، تحت دعاوى قدسية المدن، أو مخالفة تلك الاحتفالات للشريعة والعادات والتقاليد.
الرافضون لتلك الفعاليات، وهم بالعادة القوى الحليفة لإيران من أحزاب وفصائل مسلحة، وشخصيات محسوبة عليها، طوروا أخيراً من تصعيدهم الرافض للفعاليات الفنية والثقافية، التي توجهت لها حكومة رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، أخيراً، ضمن سياسة الانفتاح والتخفيف من حالة الانغلاق والتشنج داخل المجتمع العراقي، وذلك بالخروج باحتجاجات وإقامة الصلاة بالقرب من أماكن إقامة الحفلات، كما حصل في مهرجان بابل الدولي أخيراً.
في المهرجان، أقدم عدد من المعترضين على إقامة صلاة قريباً من بوابة عشتار في مدينة بابل الأثرية، لمنع المهرجان، إلّا أنّ هذه الحركة قوبلت بردٍ شعبي كبير للمطالبة باستمرار الفعاليات، وحملت أيضاً سخرية من الجهات الرافضة بصور مختلفة، من قبيل أنّ السرقة والفقر والبطالة حلال، والغناء حرام، وبغداد لن تكون قندهار، وغيرها من الشعارات الرافضة لهذا التوجه.
ورغم أن إدارة مهرجان بابل الدولي ردت على الحملات الرافضة لإقامة الفقرات الغنائية، التي استضافت عدداً من المطربين العراقيين والعرب، والفرق الفنية من بلدان مختلفة، فإنّ هذا لم يمنع حملة الرفض على مواقع ومنصات وصفحات المعترضين، وهم بعض رجال الدين، وجمهور المليشيات. لكن، رغم ذلك استمرت الفعاليات.
ووفقاً للصحافي العراقي حيدر البدري الذي يشارك في تغطية مهرجان بابل الدولي، فإنّ "المهرجانات الموسيقية وفعاليات التمثيل ومعارض الرسم، وحتى معارض الكتب في العراق، عادة ما تتعرّض إلى انتقادات ومضايقات من قبل شريحة معينة ومعروفة، كما حصل مع مهرجان بابل، تحت مزاعم أن هذا الحفل أو المهرجان يدعو إلى الفسق والفجور، مع دعوات إلى عدم حضوره". يقول البدري، لـ"العربي الجديد": "هذا الرفض للفن استمر منذ عام 2003، حتى تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وكان يؤثر على قرارات الحكومات المحلية في العراق، بسبب عدم الرد عليها جرّاء المخاوف على شعبيتها من جهة، وسيطرة هؤلاء على المشهد السياسي والاجتماعي والأمني، لكن بعد التظاهرات، بات هناك اندفاع شعبي وإعلامي لمواجهة هؤلاء، وتحققت انتصارات فنية رغم الحملات المسيئة".
كما تواصلت "العربي الجديد" مع المسؤول المحلي في محافظة بابل محمود السلطاني، الذي يقول إنّ "الرافضين لمهرجان بابل شريحة قليلة، وهم ينتمون إلى أحزاب إسلامية معروفة، وحشدت جمهورها قرب مهرجان بابل لإفشاله، لكن تعاملت معهم قوات الأمن بسلمية". يلفت السلطاني إلى أن "الحملة الرافضة بدأت عبر مواقع التواصل، بالتحدث نيابة عن أهالي بابل باعتبارهم رافضين لهذه المهرجانات، لكنّ القائمين على حملات الرفض لم يتوقّعوا أن الجماهير المدنية سترد بطريقة قاسية، من خلال الحضور بأعداد كبيرة؛ لذلك، فإنّ حملات الرفض التي قادتها جماهير الأحزاب الدينية، مثلت أداة ترويجية للفعاليات الفنية، وقد شهد اليوم الأول حضور أكثر من سبعة آلاف عراقي".
وشهدت صفحات وقنوات المعترضين حملات وصفها ناشطون بأنّها مسيئة للعائلات العراقية؛ إذ تحدث رجال دين أنّ بابل مدينة ملعونة، مستندين في ذلك إلى روايات دينية، فيما ذهب رجال دين آخرون إلى وصف العائلات التي زارت المهرجان بأنها "ملعونة"، وشتم آخرون الحاضرين وطعنوا بشرفهم، إلّا أنّ بعضهم اضطر إلى حذف منشوراته بعد رد فعلٍ شعبي غاضب من المؤيدين للاحتفالات الفنية. كذلك برزت منشورات على منصة "تليغرام" تتبع لفصائل مسلحة، مثل قناة "صابرين نيوز" استمرت في تشويه صورة المهرجان عبر انتقاد التنظيم فيه، واختيار الفرق الراقصة والمؤدين، فيما حملت العبارات التي استخدمتها القناة تنمراً واضحاً، بحسب مراقبين.
وفي نهاية عام 2019، شاركت عازفة كمان في حفل افتتاح ملعب رياضي في كربلاء، ما دفع بزعماء فصائل مسلحة وسياسيين إسلاميين إلى اعتبار الحفل انتهاكاً لقدسية المدينة، مهاجمين السلطات في استقدام موسيقيين للمدينة، وقاد ناشطون عراقيون حملة شارك فيها أغلب العراقيين لرفض مثل هذه الدعوات، مستحضرين صوراً لمناطق عشوائية فقيرة، ومؤسسات خدمية منهارة، ومعتبرين أن هذه من تنتهك قدسية المدينة والإنسان أيضاً، وليس عازفة كمان.
أما عضو نقابة الفنانين العراقيين علي المشهداني فيقلل من أهمية المعترضين والمتطرفين الرافضين للمهرجانات الفنية والغنائية، بالقول إنّ "هذه الشريحة موجودة في كل زمان ومكان، لكن في العراق باتت بلا أهمية، ومواقفها سرعان ما تختفي بسبب الرفض الكبير، ويمكن اعتبارهم أنهم بلا موقف، وأنهم عاطفيون أكثر من كونهم متدينين. ومع ذلك، فإن من حق الجميع التعبير عن حرية رأيه، وأن يرفض المهرجانات، لكن من دون التجاوز والطعن في أعراض العراقيين والعراقيات". يوضح المشهداني في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّ "الرد الممنهج على الرافضين، والذي جاء بطريقة عفوية، تمثل بنشر وسوم على مواقع التواصل، مثل: بابل تغني، والذي لا يزور عشتار عمره خسارة، أسهم بتراجع المتطرفين في المواجهة مع المدنيين".
وقبل مهرجان بابل، سبق أن رفض رجال دين وأعضاء في أحزاب إسلامية حضور الفنانة اللبنانية إليسا في حفل أقيم في بغداد، لدواعٍ كثيرة، منها التبرير بأهمية التباعد الاجتماعي، بسبب استمرار تسجيل الإصابات بفيروس كورونا، إضافة إلى التهديدات الأمنية التي قد تلحق بالعراقيين جرّاء التجمع، لكن هذه الحملة لم تلقَ أي اهتمام حكومي، وتعرضت إلى سخرية بالغة من العراقيين عبر مواقع التواصل، إذ إنّ القائمين عليها روّجوا أنّ إليسا كانت قد ارتدت درعاً واقياً من الرصاص، وقد نفت الفنانة ذلك، موجهة خطابها لرافضي وجودها في العراق.