خلال الفترة الماضية، شهدت الساحة الفنية في ألمانيا خصوصاً المهرجانات الألمانية، ممارسات قمعية غير مسبوقة؛ إذ تعرّض عدد من الموسيقيين إلى مصادرة آرائهم حول العدوان الإسرائيلي على غزة. وكان آخر حلقة في سلسلة تلك الممارسات ما جرى مع مغنية الراب الأميركية، ميكي بلانكو، التي استبعدت من مهرجان غنائي بسبب موقفها المساند للفلسطينيين.
نشرت بلانكو، قبل أيام، على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، رسائل من إدارة مهرجان لايبزيغ للموسيقى القومية، تفيد بأن الجمعية اليهودية الألمانية مارست ضغوطاً لإلغاء عرض الفنانة الغنائي، الذي كان يفترض أن يُقام في برلين، وذلك بسبب دعمها لفلسطينيي غزة.
إدارة المهرجان، بحسب ما أوضحت بلانكو، رفضت ذلك الضغط، لكنها تراجعت في النهاية، واعتذرت للمغنية الأميركية. بررت الإدارة موقفها بأن المهرجان يعتمد على التمويل الحكومي الذي قد يُسحب في حالة المضي قدماً في استضافة بلانكو.
جاء رد مغنية الراب واضحاً، إذ عبرت من خلال بيان نشرته على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي عن ألمها "كشخص أسود نشأ في إطار ثقافة يهودية إلى حد ما". أشارت بلانكو، بحزم، إلى أنها لن تكون خجولة أبداً من موقفها المتعاطف مع الفلسطينيين، وستظل "إلى الأبد ضد استخدام معاداة السامية كسلاح لتبرير الإبادة الجماعية في غزة".
في حادثة مماثلة، أبلغت أكاديمية الفنون الجميلة الألمانية الموسيقي الأميركي-التشيلي نيكولاس جار أنه لا يستطيع تقديم ورشة كان مقرراً أن يقيمها في الأكاديمية؛ بسبب قصة له (Story)، نشرها على تطبيق إنستغرام، انتقد فيها البيت الأبيض بعد وصفه هجوم حركة حماس بأنه "غير مبرر".
وعبر قصته تلك، أشار جار إلى أن العديد من الخبراء أفادوا أن ما قامت به "حماس" لا يمكن فهمه بشكل كامل بعيداً عن سياق الاحتلال الإسرائيلي، لتتسبب هذه التدوينة في منع جار من تقديم ورشته.
وفي ظل أجواء تحريضية تسود الساحة الثقافية في ألمانيا، تماهياً مع السياسة الرسمية؛ التقطت إحدى الصحف حديث جار لتعيد صياغته بصورة تجعل الموسيقي يبدو مؤيداً لما زعمت أنه "إرهاب"، وما قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكن الصحيفة الألمانية سرعان ما تراجعت، وصححت تفسيرها لكلام جار، بعد أن هددها باتخاذ إجراء قانوني ضدها.
العديد من الموسيقيين ألغيت حفلاتهم لأسباب مشابهة، إذ ألغى نادي Blitz في ميونخ حفلاً للدي جيه الإنكليزية LCY، وأفاد النادي بأنه ألغى الحدث بعد تلقي موظفيه تهديدات في حال استضاف LCY.
أرجع Blizt السبب إلى فيديو شاركته الفنانة في إحدى صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ دعت فيه فنانة تسمى سارة وايلد إلى العودة لفلسطين، البلد الذي وسع اليهود والمسلمين والمسيحيين، وكانوا يعيشون فيه بسلام.
هذه الدعوة اعتبرها النادي معادية لإسرائيل، لتقرر إدارته إلغاء الحفل. من جانبها، صرحت LCY أنه من السيئ أن تفقد عملها، لكن ذلك لن يمنعها من المناداة دائماً بحرية فلسطين، وأدانت الدي جيه البريطانية، في بيان لها، الدولة الألمانية لحظرها الاحتجاجات المتضامنة مع فلسطينيي غزة، واصفة ذلك بأنه "فضيحة وعار حقيقيان لديمقراطيتها".
ورغم أن النادي قدم اعتذاراً بعد ذلك، وأرجع موقفه إلى سوء اقتباس لما جاء في الفيديو، مديناً في بيانه "الحرب الحالية" ومطالباً "بوقف فوري لإطلاق النار ووقف قتل الأبرياء"، إلا أن حفلة LCY لم تُقَم مثلما كان مقرّراً.
الأمر ذاته تكرر مع فرقة "لانكوم" الأيرلندية، إذ ألغى مهرجان Trans Century للفنون الشعبية في لايبزيغ عرضاً كان من المفترض أن تقدمه الفرقة في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
في هذا السياق، أصدرت إدارة المهرجان بياناً، أعلنت فيه أن الإلغاء جاء بسبب موقف "لانكوم" من الأحداث في فلسطين، ونص البيان على أن الفرقة "تعتنق موقفاً سياسياً لا نمثله كمهرجان. وبالتشاور مع الفنانين المشاركين، اتفقنا على إلغاء الحفل الخاص بالفرقة الأيرلندية".
جاء بيان المهرجان رداً على تصريح كانت "لانكوم" قد أصدرته معربةً فيه عن تضامنها مع الفلسطينيين. وسجل أعضاؤها نصاً: "نشعر بالحزن والصدمة ونحن نشاهد على مدار الأسابيع الماضية القتل العشوائي للأطفال والمدنيين، علاوة على عقود من القمع والاضطهاد، هو أمر لا يسعنا إلا أن نعلن رفضنا له، ولكل ذلك نحن فخورون جداً برفع أصواتنا تضامناً مع شعب فلسطين، وهو أقل ما يمكننا القيام به".
ضمن سلسلة الإلغاءات تلك، أعلن الموسيقي الأنغولي نزار أن نادياً موسيقياً ألمانياً ـ رفض الإفصاح عن اسمه ـ هدده بإلغاء حفل له في ألمانيا، بسبب منشورات متعاطفة مع فلسطين، رأى النادي أن محتواها يتضمن تأييداً لما قامت به حماس. غير أن الإدارة تراجعت بعد رد حازم من نزار، وفقاً لما صرح به، لتخبره أنها لا تلومه على أي تعليقات مؤيدة للفلسطينيين أو مناهضة للاستعمار.
وذهب الموسيقي الأنغولي إلى أنه من المهم النشر عن تلك الحوادث؛ لأن الخوف من فقدان العمل أعفى عدداً من الفنانين من واجب التضامن مع فلسطين منذ السابع من أكتوبر. وأضاف نزار: "أريد أن أشجع الآخرين على عدم التراجع والكشف عن هذا النفاق".
في ذات الأسبوع أيضاً اضطرت الدي جيه زينب، وهي فنانة سورية ألمانية، لإلغاء حفلها في نادي "نويه فيله" في لايبزيغ، بعد أن رفض الترويج لعرضها بسبب منشوراتها على "إنستغرام" حول القصف المستمر للفلسطينيين و"دفاعها عن حقوق الإنسان الأساسية"، وفق تصريح لها.
كان من المقرر أن يقام الحفل في 24 نوفمبر الماضي، لكن المتحدث باسم "نويه فيله" أذاع أن النادي قد أجل الترويج لحفل زينب إلى أن يستعلم عن "أنشطتها على وسائل التواصل الاجتماعي". وزعمت الإدارة أن الفنانة "رفضت أي حوار آخر مع فريقنا"، موضحاً أنه "لم يكن هناك أي إلغاء من جانبنا".
من جانبها، دحضت زينب ذلك، قائلة إنها "لم تتح لها الفرصة لفتح حوار مع نويه فيله منذ البداية"، وأن النادي "تعمد" الاستمرار في الترويج لأحداث أخرى خلال فترة الإعداد لحفلها.
وفي بيان أصدره النادي على إثر الواقعة ـ لم يشر خلاله إلى زينب أو منشورها ـ أقر عدداً من الشروط "غير القابلة للتفاوض" لكل وجهات النظر المقبولة حول القضية الفلسطينية، وتضمنت تلك الشروط "عدم التشكيك في حق إسرائيل في الوجود"، وعدم تجاهل حقوقها بصفة عامة أو تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة.
هذه الحوادث المتواترة، حرضت منظمة مثقفي برلين من أجل فلسطين على إصدار بيان طالبت فيه المؤسسات الثقافية باتخاذ مواقف ضد "العنصرية والاستعمار"، وحذرت المنظمة من أن التماهي مع سياسات الدولة التي تفرض رقابة على الفنانين بسبب تضامنهم مع فلسطين يشكل "سابقة مخيفة".
ومعروف أن ألمانيا تأتي في مقدمة الدولة الغربية المنحازة بشكل كامل إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ أعلن مستشارها أولاف شولتز، بعد أسبوع من عملية طوفان الأقصى، أنه "لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا في هذا الوقت، وهو بجانب إسرائيل.. تاريخنا ومسؤوليتنا عن الهولوكوست، يجعل الدفاع عن أمن دولة إسرائيل مهمتنا الدائمة".