في عام 1931، دُعي إلى برلين، عازف آلة الكمان الشرقية الأشهر في عصره، المصري من أصل سوري حلبيّ، سامي الشوا (1889-1965). في العاصمة الألمانية، قدم الشوا حفلاً موسيقياً، ثم سُجِّلت له أسطوانة، احتفظ بها المعهد العالي للموسيقى (Hochschule für Musik).
في السنة ذاتها، زار المدينة أيضاً مغنّي المقام العراقي محمد القبانجي (194 - 1989)، برفقة فرقة موسيقية عراقية تراثية، وسُجّلت له، أسوة بالشوا، أسطوانات لصالح الإذاعة الألمانية. بثّتها ضمن برامج قناة تابعة لها، ناطقة بالعربية.
اليوم، وسط النقاش المحتدم، الذي يدور في الفضاء العام، كالإعلام والمرافق الأكاديمية، والخاص داخل غرف صناعة القرار الثقافي والسياسي، حول ما بات يُعرف بنقض الكولونيالية (الحقبة الاستعمارية)، أخذت تعلو أصوات المستعمرات السابقة، وحتى من داخل المجتمعات الغربية، تُنادي باسترداد، أو إرجاع الإرث الثقافي للجماعات التي استُعمِرت، سواء بقيت إثنيّات أو انطوت تحت دول قومية حديثة. إرثٌ، يتشكّل من لُقى وتُحَف فنية سُلِبت في كثير من الأحيان، من قبل الجيوش والبعثات الدينية والعلمية والاستكشافية، ثم أُرسِلت إلى باريس ولندن وبرلين، لتُعرض في متاحفها، كشواهد مادية، تَسنُد مَرويِّةً كُبرى. فحواها، أن الغرب في العصر الحديث، لهو مركز العالم.
اتسعت دائرة النقاش لتشمل ضرورة استرداد الآثار الصوتية. فتبرز شُبهة أن يكون الأرشيف الغربي، البصري والسمعي، ذراعاً للاستيلاء على الصورة والصوت، وامتلاكهما قسراً وحصراً، عن طريق تسجيلهما، سواء على شريط أو أسطوانة، ثم إيداعها رفوف أقبية المؤسسات الرسمية والثقافية. هنا، وعلى سبيل الافتراض، يُطرح سؤال عما إذا كان الذي سُجِّل من أسطوانات لكل من الشوا والقبانجي في برلين، أوائل القرن العشرين، إرثاً ثقافياً يعود بالأصل إلى كلٍّ من سورية ومصر والعراق، وعليه، تنبغي إعادته إلى أيٍّ أو كلٍّ من الدول المعنية؟
لا تتوفر معطيات كافية عن الكيفية التي تمت بموجبها آنذاك دعوة كل من العلمين الفنيّين إلى ألمانيا، وعمّا إذا كانت المادة السمعية التي احتفظ بها أرشيف كل من الإذاعة والمعهد الموسيقي، قد سُجّلت برضا أو تعاقد كل منهما، ومجموعة العازفين الذين رافقوهما خلال زيارتهما. لكن، ماذا عما يُعرف بـ "التسجيل الميداني" (Field recording)؟ أي، حين يقوم باحث أو هاوٍ بزيارة بيت في قرية، أو خيمة قبيلة، يوثّق بواسطة آلة مسجلة متنقّلة، أغنية أو أهزوجة تراثية، يؤديها محليّون خلال طقس اجتماعي أو ديني.
في برلين، وفي نفس الفترة التي زارها الشوا والقبانجي، كان روبرت لاخمان Robert Lachmann (1892-1939) لا يزال يعمل في أرشيف مكتبة الدولة، قبل أن يُسرّح، لأصوله الساميّة، من قبل النازيين سنة 1933. ولاخمان موسيقي وُلِد ونشأ في العاصمة الألمانية، تعلم آلة الكمان. كان مهتمّاً بالشرق فتعلم اللغة العربية، ثم اتجه إلى دراسة العلوم الموسيقية. في عام 1929 نشر كتاباً بعنوان "موسيقى الشرق" (Musik des Orients)، بحث فيه ما سمّاه "موسيقى غير الأوروبيين". يُعد الكتاب اليوم بذرةَ "علم موسيقى الشعوب" (Ethnomusicology).
سافر إلى تونس، وفيها انكبّ على التسجيل الميداني، فوثّق أغاني وأهازيج من مختلف أنحاء البلاد. ثم دُعي إلى مصر، سنة 1932، ليُشارك بمؤتمر الموسيقى العربية الذي عُقد بالقاهرة، وكان سامي الشوا من المؤسسين له والمشاركين فيه. خلاله، قدّم بحثه عن موسيقى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في عام 1936، وبموجب تصريح بريطاني (بحكم أن كانت حينئذ سلطة انتداب) حلّ لاخمان في فلسطين، جالباً معه أرشيفه السمعي من تونس وبلدان شرق أوسطية عدة. وفي القدس، اشتغل حتى آخر حياته على توثيق الموسيقى المحلية في الحواضر والأرياف الفلسطينية، فاق عددها 800 تسجيل. لا يزال معظمها في حيازة الأرشيف الإسرائيلي.
أحد مساعي استرداد الإرث السمعي من أرشيف الدول الاستعمارية السابقة تكلل بالنجاح، في عام 2015. تسجيلٌ صوتي عُمره 65 عاماً لأغنية تُسمّى "شيميروتشا"، تؤديها ثلّة فتيات من قبيلة "كيبسيغيس"، تقطن وادي يُدعى ريفت في كينيا، جرت إعادته إلى حيث سُجّل. الوثيقة السمعية كانت قد جُمِعت على يد باحث في موسيقى الشعوب، بريطاني يدعى هيو تريسي Huey Tracey (1903-1977). هاجر هذا الأخير إلى زيمبابوي حين لم تزل بعد مستعمرة بريطانية، ومن هناك، انطلق في طول أفريقيا وعرضها، يجمع خلال الفترة الممتدة من عشرينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، أكثر من 35 ألف أغنية شعبية أفريقية.
كمثيلتها من قضايا الاسترداد تحت شعار "نقض الكولونيالية"، كالمطالبة بإرجاع الإرث المادي للشعوب التي استُعمِرت، من تُحفٍ ولُقى أثرية، تنطوي مسألة مُلكية الإرث السمعي في ثناياها على مسائل عدّة، أولاها القانونية، تتعلق بما إذا كانت التسجيلات قد جُمِعت عنوة أو برضا الأطراف.
في ضوء ذلك، كيف تمكن المقاربة القانونية تحت ظل الخلل الجليّ في ميزان القوة بين المُستَعمَر والمُستعمِر؟ ثانيها العملية، وتتمثّل في أن الإرث السمعي حبيسُ الوسيط الآلي الذي سُجِّل عن طريقه وحُفِظ بواسطته، فهو لا يتمتع بتجلٍّ بصري مباشر ومستقل، كالتحفة المعروضة في متحف، ناهيك بمغبة تعرضه للتلف السريع، أو أن يعدم وسائل العرض المناسبة، إثر مرور الزمن وتقدّم التكنولوجيا.
أما المسألة الأعمق؛ فتتعلّق بماهية الصوت وطبيعة الموسيقى كهواء مصوّت، أو أثير. إذ إنها، كالمعرفة، وسيطٌ لا مادي، جرى تجميده بصورة صناعية وبفضل تكنولوجيا حديثة. وعليه، أصبحت الحداثة مكّوناً له وعنصراً من عناصره. ثم إن الصوت منذ أن لجأ إليه الإنسان وسيلةً للتعبير، ظلّ يهيم في فضاء التاريخ، يحمل معه لواقح لا تُعدّ ولا تُحصى، ومن كل حدب وصوب.
حتى البيئة، بما فيها الإحداثية الزمانية المكانية، التي التُقِط عندها، والآلة التي التقطته، والحاوية التي حفظته، ناهيك بأمزجة من غنّى وعزف، ومن سجّل وحفظ، عن خلفيّاتهم ومشاربهم، وعن أهوائهم وآرائهم، كلها، عوامل تحدد هويته. لذا، فإن البتَّ في أصل ملكيته، ثم استرداده، يُشبه إلى حد ما، استرجاع جزيء الماء من الهواء.