المعضلة الاجتماعية (يوتيوب)
08 أكتوبر 2020
+ الخط -

"لا يدخل شيء ضخم حياة البشر من دون لعنة". بهذه العبارة الموجزة لسوفوكليس، يدخلنا صنّاع الوثائقي الجديد "المعضلة الاجتماعية" The Social Dilemma، إلى فيلمهم الموصى به بقوة على نتفليكس، المُنتج الرئيس للوثائقي، وهو ما يبرّر ربّما احتلال الفيلم مكاناً متميزاً على قائمة الأكثر مشاهدة على المنصة العالمية في الأسابيع الأخيرة.

مخرج العمل، الذي امتد إلى ما يزيد عن الساعة والنصف بقليل، هو الأميركي الشاب جيف أورلوفسكي، الذي سبق وقدم فيلمين وثائقيين ناجحين من قبل، كان الأول "مطاردة الجليد" Chasing Ice عام 2012، وناقش من خلاله قضية ذوبان القمم الجليدية حول العالم، فنال عنه إحدى جوائز Emmy، فيما حمل الوثائقي الثاني له عنوان "مطاردة الشعاب المرجانية" Chasing Coral عام 2017، وكان موضوعه ذبول الشعاب المرجانية واختفاءها.

بعد هذين العملين الناجحين، كلفت نتفليكس جيف أورلوفسكي بإخراج فيلمها الجديد عن مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها الطاغي على الأجيال الجديدة، أو بالأحرى: كيف تعمل وسائل الإعلام الجديدة على تآكل النسيج الاجتماعي للمجتمع؟
من هنا، يمكننا الربط بين الوثائقيات الثلاثة لأورلوفسكي، الذي يعتبر أن خطر فيسبوك، وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، لا يقل خطورة اليوم عن الكوارث التي تشهدها الطبيعة في لحظتنا الراهنة، وهو ما يبرزه الوثائقي من خلال عشرات المقابلات التي أجراها صناعه مع عدد كبير من العاملين السابقين في وادي السيليكون، كما تخللته أيضاً قصة خيالية شديدة الدرامية، عن عائلة أميركية عادية تواجه صعوبات بسبب إدمان أفرادها على الهواتف الذكية.

ومع ذلك، تأتي أقوى لحظات الفيلم على ألسنة ضيوف العمل من رواد وادي السيليكون، مثل تريستان هاريس الذي يمثل شركة غوغل، ويطلق عليه في وسائل الإعلام الأميركية لقب "ضمير وادي السيليكون"، لمطالبته الدائمة شركات التكنولوجيا بما يسميه "أخلاقيات التطبيق"، وجاستين روزنشتاين من فيسبوك وجيف سيبرت من تويتر، وغيرهم من العقول التي ساهمت في إنشاء وتطوير إنستغرام ويوتيوب وبينترس. اللافت للنظر أن جميع هؤلاء تركوا العمل في هذه الشركات التكنولوجية الضخمة لأسباب أخلاقية، كما أنهم لا يسمحون لأطفالهم باستخدام الهواتف الذكية، ويعمل الكثير منهم الآن على محاربة الوحش الذي ساعدوا في تكوينه.


الخوارزميات الشيطانية
ما يقوم به الوثائقي بحرفية عالية هو تصوير التوحش والسيطرة اللذين أصبحت تمارسهما السوشيال ميديا اليوم على حياة الأفراد العاديين، على الرغم من إشارة بعض ضيوف الوثائقي إلى ما حققته هذه التطبيقات في بداية ظهورها من إنجازات إنسانية، حيث جمعت شمل عائلات تفرق أفرادها، والعثور على متبرعين بالأعضاء لمرضى مهددين بالموت، إلى أن ظهر الجانب الآخر من المأساة بحلول عام 2011، حيث تزايدت حالات الانتحار بين المراهقين حول العالم بسبب إدمانهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي هذا السياق، يشير أحد ضيوف الفيلم إلى زيادة حالات الاكتئاب والمرض النفسي لدى الأجيال الجديدة، حيث أصبح الجميع سلعاً تباع للشركات المعلنة في سوق السوشيال ميديا، وهنا يأتي الحديث عن الخوارزميات الشيطانية التي تقف وراء الأخبار التي تبثها هذه المواقع لمستخدميها، في انتقال واضح من "عصر المعلومات" إلى "عصر المعلومات المضللة"، والهدف هو إبقاء المستخدمين في حالة انتباه كامل لإشعارات هذه المواقع طوال الوقت.

في النصف الثاني من الفيلم، تنتقل المعالجة الدرامية إلى مستوى أعلى، حيث يربط الوثائقي بشكل مباشر بين زر الإعجاب على فيسبوك وحالات انتحار المراهقين، موضحاً أن خوارزميات هذه التطبيقات، وعلى رأسها فيسبوك وتويتر وسناب شات ويوتيوب وغيرها، تعمل على تغذية الأخبار، سواء أكانت مزيفة أم حقيقية، وذلك باستخدام بيانات ملايين المستخدمين وبيعها للشركات المعلنة. وهنا عثرت هذه المنصات على الأدوات التي تستطيع معها التأثير السياسي المباشر في العديد من البلدان، كما حدث في روسيا والهند وكوريا وميانمار والعديد من البلدان العربية أيضاً، مع تقليص حدود الديمقراطية في الغرب، من خلال الاستقطاب السياسي والمجتمعي في الانتخابات، بل والتحريض على التطهير العرقي في أحيان أخرى.

سينما ودراما
التحديثات الحية

رأسمالية المراقبة
ثمة مقولة يذكرها تريستان هاريس، الذي يتمحور حوله الوثائقي باعتباره "ضمير وادي السيليكون"، لإنشائه مؤسسة للتكنولوجيا الإنسانية تقول: "إن لم تدفع مالاً لأجل المُنتَج، فأنت المُنتَج الذي يُباع"، في إشارة إلى ما يسميه هاريس "رأسمالية المراقبة"، والتي تستفيد من التتبع اللانهائي لمستخدمي هذه المنصات. ويربط ضيف آخر بين إتاحة منصات التواصل الاجتماعي على الهواتف الذكية منذ عام 2009 وبين جيل "زد"، وهو الجيل الذي ولد بداية من عام 1996، باعتباره أول جيل في الولايات المتحدة الأميركية ممن دخلوا المدارس وهم موجودون على إنستغرام وغيره من منصات التواصل الاجتماعي، ويصفه بأنه الجيل الأكثر هشاشة وقلقاً واكتئاباً من الأجيال التي سبقته، حيث تضاعفت نسبة الانتحار فيه ثلاث مرات عن الأجيال السابقة له.

يستعرض الوثائقي مخاوف صناع هذا الوحش الذي ساهموا في إطلاقه حتى خرج عن السيطرة، ولكن تبقى حقيقة واحدة، ألا وهي أن هذه المخاوف جميعها ليست جديدة في شيء، والحلول التي يطرحها الوثائقي تبقى قاصرة ومخيبة للآمال، فهم يقولون: "اغلق جميع إشعارات هذه المنصات على هاتفك"، "لا تنقر على مقاطع الفيديو الموصى بها"، "امنع الهواتف من غرف النوم" و"المطالبة بمزيد من التنظيم".

كل هذه النصائح تضيع أدراج الرياح، خاصة حين نعرف أن إزالة جميع هذه التطبيقات خطوة بعيدة المنال بالنسبة للكثيرين، لأن ذلك ينفي الأثر الإيجابي الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا اليوم، ويمثل هذا التوتر بين الوعد بالطوباوية والتهديد المستمر بالواقع المرير، وفقاً لتريستان هاريس، المعضلة الأخلاقية التي يشير إليها عنوان الفيلم.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

الشعور بالعجز
نلمح هذا الشعور الطاغي بالعجز في النسيح العام للوثائقي ككل، تماما مثلما تحدث أورلوفسكي في عمليه السابقين عن ذوبان القمم الجليدية واختفاء الشعاب المرجانية، إلا أنه هنا يرى في وسائل التواصل الاجتماعي تهديداً وجودياً كبيراً، يعادل في تأثيراته ونتائجه تغير المناخ إن لم يفقه خطراً، وهنا يضع الوثائقي نفسه باعتباره المرآة التي تعكس الجانب الآخر المزعج لتأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي على مستخدميها، فيفتح أورلوفسكي عيوننا على سطوة ما سماه بالـ"خوارزميات الشيطانية"، متتبعاً الميول الاجتماعية السلبية الأخرى التي أنتجتها منصات التواصل الاجتماعي على عقول مستخدميها، مثل عدم المساواة والتنمر والاستقطاب ونشر الأخبار الكاذبة والتضليل، وطلب الاعتراف الدائم من الآخرين، ناهيك بنشر بيانات الخصوصية لملايين المستخدمين حول العالم، كما لو أن أورلوفسكي يقول: دعنا نحاربهم بأسلحتهم الخاصة ذاتها، لأنها أثبتت بالفعل قوتها!

يشير الوثائقي أكثر من مرة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل "أكبر تهديد وجودي للبشرية"، حيث يكشف تريستان هاريس، موظف غوغل السابق، عما سماه "أجندة جديدة للتكنولوجيا"، ما دفعه إلى إنشاء مؤسسة غير ربحية جديدة تحت اسم "مركز التكنولوجيا الإنسانية"، داعياً إلى الأذهان الشياطين التي عرفناها خلال السنوات العشر السابقة: المعلومات الخاطئة، التلاعب ببيانات المستخدمين، الإدمان، لكن هاريس يشير إلى تحولنا إلى عرائس من الماريونيت في أيدي شركات التكنولوجيا الكبرى، حتى صرنا نقطّع ونباع مثل لحوم المزارع.

يمثل الوثائقي أيضاً محاكمة لهذه المنصات التي تغلغلت داخلنا، فجميع ضيوفه من المتخصصين يجلسون وكأنهم شهود في محكمة، فيستدعيهم الوثائقي واحدا تلو الآخر ليتحدثوا عن مخاوفهم، ومن بينهم تيم كيندال، المدير السابق لتحقيق الدخل في فيسبوك، وجاستن روزنشتاين الذي اخترع زر "أعجبني" في فيسبوك؛ وجويلاوم شاسلوت الذي أنشأ البنية الأساسية لمقاطع الفيديو الموصى بها على يوتيوب، وجميعهم يدينون عملهم السابق إدانة أخلاقية واضحة وصريحة، موضحين كيف استثمر الأشخاص الذين يعملون في شركات التكنولوجيا أموالًا طائلة وقوة هندسية لا حصر لها، لتصميم أنظمة تجعلنا مدمنين عليها وتتنبأ بكل حركة لنا، كأن كل مستخدم لهذه المنصات تحول إلى بطل يشبه قصة فيلم "ترومان شو"، كل يعيش وهمه الخاص، في عالم كامل من الماتريكس الافتراضي.

تكنولوجيا
التحديثات الحية

وضعت تعويذة عليك 
يؤكد الوثائقي هذه الانتقادات بسرد درامي لافت، حيث يصور الممثلون صراعات الأسرة النمطية مع سطوة منصات التواصل الاجتماعي عليهم، حيث لا وجود لأي اتصال بالعيون بين أفرادها على مائدة العشاء، فالابنة المراهقة تعاني من التنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والابن المراهق يبدأ في الاستماع إلى مقاطع فيديو متطرفة على هاتفه، وهنا ينتقل بنا الفيلم إلى "مركز تحكم" مجازي للفتى، حيث يتم التلاعب به من خلف الشاشة من قبل خوارزميات هذه المواقع، وفيما نراه مستلقيا على فراشه غارقا في عوالمه الافتراضية، تنطلق في الخلفية أغنية "وضعت تعويذة عليك".

الحقيقة التي نخرج بها من هذا الوثائقي المصنوع بدقة، هي أن هواتفنا الحديثة غيرت الطريقة التي نتفاعل بها مع عائلاتنا وأصدقائنا وما يجري حولنا من تغيرات مجتمعية أو سياسية، إلا أنه أيضا يجعلنا نشعر بحالة ما من السخرية، حيث يأتي الفيلم في أوج الإغلاق العالمي بسبب فيروس كورونا، وقد تحولت برامج التعليم في أغلب بلدان العالم إلى التعليم الافتراضي عن بعد بسبب إغلاق المدارس والجامعات، فيما يمارس الملايين حول العالم أعمالهم من منازلهم عبر الإنترنت، حتى أصبحت هذه المنصات لا بديل عنها بالنسبة للكثيرين، باعتبارها الطريقة الأكثر سهولة وسرعة للتواصل مع الأصدقاء والعائلة.

المساهمون