المصارف والإعلام اللبناني: لكل خطاب تسعيرة

27 فبراير 2023
لم يعد بالإمكان الترويج للخدمات المصرفية وإغراءات القروض (جوزيف عيد/ فرانس برس)
+ الخط -

رغم الأزمة الخانقة منذ عام 2019، لا تزال المصارف اللبنانية تخصّص موازنات مالية كبيرة لوسائل الإعلام المحلية. الهدف الأول طبعاً لهذه العلاقة المالية بين الطرفَين، هو سعي المصارف لكسب ود الإعلام وبالتالي طمس أي خطاب معادٍ لها، إلى جانب حشد دعم لرؤيتها وتعزيز سرديات تبعد مسؤولية الانهيار عن كاهلها وذلك في ظل غضب المودعين من ممارساتها وحجزها على ودائعهم منذ أكثر من 3 سنوات، وتزايد الدعاوى القضائية الداخلية والخارجية المقامة ضدها.
يشير معنيون في ملف المصارف إلى أن العلاقة بين البنوك ووسائل الإعلام لم تنقطع يوماً، وقد شهدت تراجعاً طفيفاً بفعل غليان الشارع اللبناني إبان انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لكن أدوات وأساليب الدعم الإعلامي اختلفت وأصبحت بغالبيتها غير مباشرة، خصوصاً أنه لم يعد بالإمكان الترويج للخدمات المصرفية وإغراءات القروض التي تقدَّم للأفراد والمؤسسات لجذب ودائعهم ورؤوس الأموال الأجنبية، ولا توجيه مقالات وتقارير إخبارية نحو سلامة القطاع المصرفي أو الليرة اللبنانية كما كان يحصل.

المصالح المتبادلة لم تتوقف

يقول مصدرٌ مصرفيٌّ، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الكثير من المصارف لا تزال تخصص موازنات مالية لوسائل الإعلام مرئية أو مكتوبة وإلكترونية، حيث إن المصالح مشتركة بين الطرفين، خصوصاً أن المؤسسات الإعلامية تأثرت بدورها بالأزمة الاقتصادية وتعثر معظمها في البدايات عن سداد رواتب موظفيها، قبل أن تشهد انتعاشاً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، تُرجم برفع رواتب العاملين لديها ومنحهم أجزاء منها بالدولار الأميركي (فريش)". ويلفت المصدر إلى أنه "أحياناً يتواصل المصرف مع الوسيلة الإعلامية لعقد اتفاق بينهما يقضي بمنح مبالغ مالية بالدولار النقدي مقابل تقارير تركز على خطط القطاع المصرفي، والهجمة التي يتعرض لها، وأنه غير مسؤول لوحده عن الأزمة، كما يتم الاتفاق مع صحافيين ومحللين بشكل مستقل ولا سيما أصحاب القواعد الجماهيرية على مواقع التواصل الاجتماعي، لإضفاء الأجواء نفسها سواء عبر تغريدات أو إطلالات تلفزيونية. في حين هناك مصارف تتعرض للابتزاز من قبل وسائل إعلامية، فإما دفع أموال لها، أو تسليط الضوء على ممارساتها والإشارة إليها بالاسم، من باب الضغط للتفاوض من جديد".
في السياق نفسه، يقول مدير الأبحاث في مبادرة "سياسات الغد" سامي زغيب، ، لـ"العربي الجديد"، إن "مبالغ طائلة أُنفقت في الماضي على الوسائل الإعلامية لنشر سردية قائمة على الاستقرار والازدهار، حتى حين كان الاقتصاد في لبنان يعاني من حالة ركود، الأمر الذي أثر على الرأي العام قبل الأزمة وخلالها. كما سهّل الإنفاق على الإعلانات تعميم خطاب غير معادٍ للمصارف خلال الأزمة وخلال الفترات التي توقفت فيها فعلياً عن تقديم الخدمات المالية".

خطاب بمئات ملايين الدولارات

وفي دراسة أجرتها مبادرة "سياسات الغد"، فإنه بين عاميّ 2012 و2021، اشترى القطاع المصرفي مساحات للإعلانات التلفزيونية بقيمة تقارب الـ1.17 مليار دولار، 80 في المائة منها قبل اندلاع الأزمة سنة 2019. وقد استثمرت النسبة الكبرى من تلك الإعلانات أي 97 في المائة في القنوات التلفزيونية الستّ الأكثر مشاهدة في لبنان.
وتبعاً للدراسة، فإن نحو 530 مليون دولار من أصل 931 مليون دولار من قيمة الإنفاق الإعلاني قبل الأزمة تم خلال فترة عمليات الهندسة المالية السيئة الذكر التي قام بها مصرف لبنان. وبعدما استقرّت قيمة إعلانات المصارف المشتراة إلى ما معدله 100 مليون دولار في السنة بين 2012 و2015، ارتفعت مرة أخرى بشكلٍ ملحوظ (بنسبة 75 في المائة) وبلغت ما متوسطه 175 مليون دولار بين 2016 و2018. 141 مليون دولار سنة 2016، و170 مليون دولار سنة 2017، و215 مليون دولار سنة 2018. 

سرديات مختلفة

ويتوقف زغيب عند بعض السرديات التي يتم التسويق لها راهناً، منها هجمة المحطات أخيراً على النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون التي تلاحق بنوكا ومصرفيين وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة. وقد زاد منسوب الهجوم عليها بعد ادعائها على مدير بنك SGBL أنطون الصحناوي الذي يعد من أبرز المستثمرين في القطاع الإعلامي، وذلك من بوابة إرساء التصويب على توجهها السياسي (مقربة من التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية السابق ميشال عون) واتهامها بتعطيل عمل المصارف وتالياً معاملات الناس ورواتبهم.
ومن السرديات السائدة أيضاً، تحميل بعض وسائل الإعلام مسؤولية الأزمة لحزب الله وحده، وإبعاد الشبهات عن القطاع المصرفي وحاكم مصرف لبنان، وباقي الطبقة السياسية، وذلك بهدف دغدغة مشاعر شريحة كبيرة من اللبنانيين تعارض الحزب، وترى أنه يقوم بعملية خطف للدولة اللبنانية ومؤسساتها.

كذلك، يتوقف زغيب عند سردية وسائل إعلام مقربة من حزب الله ومؤيديه، بأن السبب الأساسي للأزمة هو الحصار الأميركي على لبنان، وأن رئيس جمعية المصارف سليم صفير هو مجرد امتداد للسياسات الأميركية.
ومن السرديات أيضاً، تطابق بعض المعالجات المحتملة للأزمة المالية في مختلف القنوات التلفزيونية الكبيرة إلى حدٍّ كبير مع سردية جمعية المصارف، وتزايد الاهتمام السياسي والإعلامي بمسألة مقترح الصندوق السيادي. وتقضي هذه السردية الخطيرة ضمنياً على أي خطاب تقدمي يقوم على مبدأ المحاسبة والتوزيع العادل للخسائر. ويشير زغيب إلى ذكاء معتمد من قبل المحطات بإدارة الخطاب، وتمرير وجهات نظر المصارف، ولا سيما عبر استضافة محللين يرددون الخطاب نفسه، لافتاً إلى أن الإعلام واجهة لرأي السلطة، وهذا القطاع أنشئ لخدمة مصالح أساسية ومحددة، وسهل التحكم به من خلال الوزارات المعنية.

إبعاد الشبهات عن المصارف

من جانبه، يقول منسّق اللجنة القانونية في "المرصد الشعبي" المحامي جاد طعمة، لـ"العربي الجديد"، إن هناك حملة واضحة وممنهجة إعلامياً لا يمكن أن تكون المصارف وجمعيتها وأصحاب النفوذ في لبنان بمنأى عنها، تحاول توجيه الرأي العام والمودعين نحو قناعة بأن الأزمة الحاصلة تتحمّل الدولة وحدها مسؤوليتها، لافتاً إلى أن التضليل الحاصل لن يرتد سلباً إلا على الشعب والمودعين بشكل خاص. ويشير إلى أننا في المقابل لا نسمع أحدا يتطرق إلى قانون استعادة المال العام المنهوب، ومسؤولية أصحاب المصارف، واستثماراتهم في أموال المودعين في الداخل والخارج، لا بل يتم التركيز على تعاميم حاكم البنك المركزي غير القانونية، وإظهار "إنجازاتها" في تراجع سعر صرف الدولار أو لجم ارتفاعه.
من جهته، نشر المحامي والباحث نزار صاغية، وهو من مؤسسي "المفكرة القانونية"، تغريدة قال فيها: "لو كان هناك مجلس أعلى للإعلام جدير بهذا الاسم، لكان حاسب وسائل الإعلام على تلقي أموال من المصارف المفلسة بهدف الترويج لها ولمصالحها مع ما يستتبع ذلك من تشويش على العمل القضائي وتحريض ضده"، مشيراً إلى أن أي تشويش من هذا النوع هو اعتداء على حق اللبنانيين بالحقيقة والعدالة.

دولة مصارف

ويقول رئيس "المجلس الوطني للإعلام" في لبنان عبد الهادي محفوظ، لـ"العربي الجديد"، إن مهمة المجلس الوطني للإعلام تكمن في رفع توصيات للحكومة، لكنها دائماً تبيت في الأدراج ولا تنفذ، وبالتالي فإن الأمر الوحيد الذي يمكننا القيام به هو الدعوة إلى الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية والقوانين، التي للأسف لا تطبّق.
ويضيف محفوظ أن "المشكلة في لبنان تكمن في أن الدولة هي دولة مصارف بالأساس، وقد فقدت هيبتها وسمعتها والمصارف أصبحت مهددة، وقد تكون هناك سياسات دولية، ربما أميركية ترمي إلى وضع اليد على المصارف اللبنانية ضمن خطة تهدف إلى كسب الرأي العام تحت عنوان حماية أموال المودعين الذين هم أكبر حزب في البلد ومنتشر في الطوائف كلها، وبالتالي، فإن الإعلام مثل باقي المؤسسات يعاني من الانقسامات".

رقابة مستحيلة

تقول الصحافية ومنتجة البرامج، إليسار قبيسي، لـ"العربي الجديد"، إنه في بداية الأزمة، كان البلد يعيش أجواء الثورة (17 تشرين)، ولم يكن بمقدور وسائل الإعلام الدفاع علناً عن المصارف، فكان لديها نوع من الحياء أمام الناس المنتفضين في الشارع، وقد وجهت صوتها بالتالي أكثر نحو حماية المودعين المسروقة أموالهم.
وتلفت إلى أن الدعم الإعلامي للمصارف يمكن أن يكون مباشراً أو غير مباشر، ودور وسائل الإعلام اليوم تهويلي عند الحديث عن خطورة انهيار القطاع المصرفي، ومصير لبنان واقتصاده في حال ضرب القطاع، ليصبح في دائرة المظلومية.
وتشير إلى أن هناك وسائل إعلام وإعلاميين يدافعون بنوع من الحياء عن المصارف وهناك من يطبّل علناً لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف ورئيسها سليم صفير. وهناك برامج تروج للمصارف وخططها ولو أدت إلى تحميل المودعين جزءا من الخسائر، كما هناك محطات تمنع ظهور خبراء ومحللين يلقون الضوء على حقيقة الأزمة وأسبابها وسبل الخروج منها، وتفتح هواءها وتعطي مساحاتها لمن يتحدثون باسم المصارف وينقلون خطابهم.
وتلفت قبيسي إلى أنه لا يمكن طلب فرض رقابة إعلامية لأن التخوف دائماً موجود من أن يساء أو يستغل استخدامها، عدا عن أن القوانين لا تنصف المودعين فكيف لها أن تواجه عملية التضليل غير المباشرة التي يتعرضون لها؟

المساهمون