الفدائيون السيبرانيون: مقاومة لوكاشينكو عن بُعد

31 اغسطس 2021
قمع واسع ووشاية استهدفا المتظاهرين في مينسك (فرانس برس)
+ الخط -

رغم تمكنه من قمع أوسع حركة احتجاجات شعبية سلمية على حكمه المتواصل منذ 27 عاماً، يواجه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو تحديات جديدة غير تقليدية. فمنذ نحو شهر تخوض مجموعة "الفدائيون السيبرانيون" حرباً حقيقية مع النظام بمساعدة عدد من الضباط الحاليين والسابقين الرافضين لوسائل القمع التي استخدمت بحق أبناء جلدتهم منذ الانتخابات الرئاسية السابقة التي أعلن لوكاشينكو فوزه بها بأكثر من 80 في المائة، فيما اتهمت المعارضة لجنة الانتخابات بتزوير نتائجها.

في نهاية الشهر الماضي، أعلن "الفدائيون السيبرانيون" البيلاروسيون أنهم نجحوا في إنجاز أكبر عملية اختراق إلكتروني في تاريخ البلاد، وأكدوا أنهم حصلوا على قاعدة بيانات جوازات السفر، وشرطة المرور، إضافةً إلى تسجيلات للاتصالات بين قيادات غرفة عمليات الأجهزة الأمنية المسؤولة عن قمع التظاهرات والاحتجاجات، وصور ومقاطع فيديو من غرف الاعتقال للمحتجين وطرق ابتزازهم، وكذلك صور من الطائرات المسيرة توثق قمع المتظاهرين. 

يقول "الفدائيون السيبرانيون" إنهم مجموعة لا تتجاوز 15 شخصاً، يتعاونون مع مجموعة "بي بول" (الشرطة البيلاروسية) التي تضم عدداً من ضباط الشرطة الحاليين غير الراضين عن حملات القمع بحق مواطنيهم. وتؤكد أنها تتعاون مع ثلاثة فقط من قراصنة الإنترنت، وأن أعضاءها هم من الخبراء في مجال الإنترنت وتقنيات المعلومات لكنهم لم يمارسوا عمليات قرصنة. وتوضح أن الضباط الأمنيين من داخل النظام أو المنشقين عنه ساعدوا في الوصول إلى المعلومات، وأعطوا إرشادات ونصائح بناء على خبرتهم السابقة أو الحالية في العمل ضمن الأجهزة الأمنية. 

انطلق عمل المجموعة في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، وأدرجتها السلطات البيلاروسية في الشهر الحالي ضمن قائمة "المنظمات المتطرفة". وذكرت المجموعة في أكثر من منشور على موقع في "تيليغرام" يحمل اسم "الفدائيون السيبرانيون" ويحظى بمتابعة نحو 80 ألف مشترك، أن هدفها يتلخّص في جمع المعلومات عن القمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية بحق المتظاهرين، والإعداد لساعة "الصفر" للقيام بتحرك شامل لإطاحة النظام، واستغلال الثغرات في البنية التحتية المتقادمة للاتصالات وبيانات المعلومات، بعد إحداث شلل في أنظمة التواصل بين الأجهزة الأمنية، والسيطرة على مراكز استراتيجية تضعف قدرة النظام القمعية. وحتى الوصول إلى ساعة الحركة الشاملة ضد نظام لوكاشينكو، تؤكد المجموعة أنها ستعمل في إطار "جبهة المقاومة" من أجل توثيق جرائم الأجهزة الأمنية والرئيس مع الدائرة المقربة منه لتقديمهم للمحاكمة، وتزويد المنظمات الدولية بوثائق تثبت حجم القمع بحق البيلاروسيين والمسؤولين عنه، لفرض عقوبات إضافية عليهم وإحداث شروخ في النظام الأمني.

وفي 30 يوليو/ تموز الماضي، ولإثبات وصولها إلى معلومات حكومية حساسة، سربت المجموعة صورةً لجواز سفر الرئيس الأوزبكي الأسبق كرمان بيك باكييف الذي لجأ إلى بيلاروسيا بعد ثورة أطاحته في 2010، كما نشرت بعض البيانات الشخصية لجواز سفر رئيسة لجنة الانتخابات المركزية في بيلاروسيا ليدا يرموشيني، ورئيس جهاز الأمن "كي غي بي" إيفان تيرتيل، وغيرهم. 

تزوّد المجموعة المنظمات الدولية بوثائق تثبت حجم القمع بحق البيلاروسيين والمسؤولين عنه، وتجمع المعلومات عن القمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية بحق المتظاهرين

تؤكد المجموعة أيضاً أنها حصلت على المعلومات الحقيقية عن انتشار فيروس كورونا، والوفيات الناجمة عن الوباء، إضافةً إلى معلومات عن أرقام سيارات المسؤولين الأمنيين المسؤولين عن القمع، وكذلك قوائم "الوشاة" للأجهزة الأمنية حول المشاركين في التظاهرات. ولتخفيف مخاوف المواطنين العاديين من تسرب بياناتهم الشخصية الحساسة، مثل المعلومات البنكية وغيرها، أكدت مصادر في المجموعة في تصريحات لوكالة "بلومبيرغ" و"ناستياشويه فريميا" أنها نقلت جميع المعلومات إلى خوادم غير متصلة بالإنترنت، وأنها لن تُستخدم مطلقاً لأغراض شخصية أو تجارية.

وفي صباح 28 أغسطس/ آب الجاري، نشرت المجموعة على "تيليغرام" مكالمة بين مسؤول أمني في مدينة بريست، وآخر في غرفة عمليات وزارة الداخلية تعود إلى 11 أغسطس/ آب من العام الماضي، ويعرض فيها المسؤولان الأمنيان الأوضاع مع التركيز على قمع التظاهرات بأي وسيلة ممكنة لمنع تمددها وانتشارها، وإجهاض محاولات المعارضة لتنظيم حراك كبير في 15 من الشهر ذاته.

ومنذ أيام سربت المجموعة تسجيلات قالت إنها تعود لمكالمة بين نائب وزير الداخلية، ونائب المسؤول عن الشرطة في مدينة مينسك، في 8 أغسطس/ آب الماضي، وفيها يتحدث المسؤولان عن الإجراءات القمعية بحق أي تجمعات تتجاوز خمسة أشخاص، وحملات اعتقال واسعة، عشية الانتخابات التي جرت في اليوم التالي، بهدف إجهاض أي حراك وترهيب المتظاهرين، وفيها يستخدم المسؤولان ألفاظاً نابية كثيرة في وصف المعارضين والحديث عنهم. 

وإضافةً إلى التعليمات بشأن قمع المتظاهرين بقسوة، كشفت تسجيلات أخرى عن أوامر صارمة بمراقبة حركة الصحافيين والحد منها بكافة الوسائل، ومنعهم من تغطية الأحداث بعض النظر عن وسيلة الإعلام وجنسيات الصحافيين، ما يفسر اعتقال عدد كبير من الصحافيين الروس (ضمن آخرين) والمضايقات التي تعرضوا لها في العام الماضي، وتدخل وزارة الخارجية الروسية والسفارة في مينسك أكثر من مرة لإطلاق سراح بعضهم.

أوامر صارمة بمراقبة حركة الصحافيين والحد منها بكافة الوسائل

وحول إخفاء المعلومات الحقيقية عن انتشار جائحة كورونا وحصيلة الوفيات، سرّبت المجموعة وثيقة من دائرة السجل المدني تشير إلى أن عدد الوفيات في البلاد في العام الماضي بلغ نحو 145 ألفاً، بزيادة قدرها نحو 25 ألفاً عن المتوقع، وذكرت أن الحكومة أعلنت فقط عن 1424 حالة وفاة في العام الماضي، وخلصت إلى أنّ البيانات سجلت وفيات أقل بنحو 15 مرة عن الحجم الحقيقي، وحمّلت لوكاشينكو المسؤولية عن تفشي المرض بدعوته إلى استخدام حمامات الساونا، وشرب الفودكا، وممارسة الرياضة للوقاية من العدوى، وعدم مبادرة حكومته إلى فرض قيود على التجمعات الرياضية أو إغلاق المدارس كما حصل في معظم بلدان العالم. 

وفي مؤشر إلى الحجم الكبير للاختراق، سربت المجموعة، منذ أيام، تسجيل فيديو من داخل سجن جهاز الأمن "كي غي بي" يظهر جزءاً من لقاء الرئيس لوكاشينكو مع المعارضين السياسيين في 10 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. ويوثق التسجيل مشادة كلامية بين المعارض سيرغي تيخانوفسكي، زوج قائدة المعارضة الحالية والمرشحة السابقة للرئاسة سفيتلانا تيخانوفسكا، مع لوكاشينكو، وينتقد تيخانوفسكي فيها استخدام الأطفال كسلاح ضد المعارضين، ويشير إلى أن لوكاشينكو أقحم ابنه نيكولاي بقضية صعبة، في إشارةٍ إلى ظهور لوكاشينكو مع ابنه المراهق نيكولاي وهما يحملان بندقيتين في القصر الرئاسي في مينسك للدفاع عنه في حال اقتحام المتظاهرين. وحينها، حذر المعارض من أن تصرف لوكاشينكو يعرض ابنه للخطر أو المحاكمة. وبعد نفي الرئيس استخدام الأطفال في الصراع واستنكاره الحديث عن ابنه، تظهر لقطات أخرى حديثاً بين تيخانوفسكي ومحققة في السجن يدين فيها منعه من اللقاء مع أولاده الذين هربوا لاحقاً إلى ليتوانيا.

يشي اسم العملية التي أطلقها "الفدائيون السيبرانيون" على حملتهم وهو "الحر" بأيام وأشهر عصيبة تنتظر نظام "آخر دكتاتور في أوروبا" كما تطلق الصحافة الغربية على لوكاشينكو. ويبدو أنّ الاسم الذي اختارته المجموعة الداخلة ضمن "جبهة المقاومة" ضد لوكاشينكو لم يكن عبثياً، فالاسم يحمل إسقاطات بين الحراك الحالي و"حرب العصابات" التي شنها "البارتيزان البيلاروسيون" (الفدائيون والثوار) خلف خطوط الجيش النازي الذي استطاع التقدم بسرعة واحتلال مناطق واسعة لكنه أنهك بفعل ضربات البيلاروسيين لاحقاً، وأجبر على الانسحاب.

المساهمون