"مشاهد من الاحتلال في غزة"، عنوانٌ يتكرر مُنذ عقود. لكن، عندما نقرأ هذا العنوان في مقدمة فيلمٍ مذيلٍ بتوقيع مخرج فلسطينيّ يدعى مصطفى أبو علي، نُدرك أننا أمام عملٍ يضعنا شهوداً أمام هذه الحقيقة.
صدر الفيلم عام 1973، على يد مجموعة من الحرفييّن السينمائييّن، أطلقوا على أنفسهم اسم جماعة السينما الفلسطينية. وضعت هذه الجماعة تحت رئاسة مصطفى أبو علي روحها على كفِّها، وكاميرتِها على كتفِّها، وذهبت مع المقاومين لتوثِّق الأعمال الثورية في فلسطين، فكانت أول مجموعة سينمائية ترافق حركة تحرر وطني مسلّحة.
قطّع أبو علي، بمساندة حثيثة من الوحدة، مادة صوّرها فريق إخباري فرنسيّ مع مقاطع أعيد تمثيلها خصيصاً للعرض، وركّبها من جديد. رافقَ السردَ البصري، بعد مونتاجه، تعليقٌ صوتي لكل من عصام سخيني ورسمي أبو علي. يأتي التعليق الصوتي متماسكا وحادا، ليرفدنا بصفات تلك المدينة؛ البؤرة الثورية الأكبر، وإزعاج إسرائيل الدائم. في الفراغات الصوتية ما بين التعليق وأصوات الانفجارات، نستمع لأغنية "زاحفين، زاحفين، فوق كل شبر من أرضنا".
الفيلم قصير بالتأكيد (13 دقيقة)، إلا أنه يوثّق مشاهد واقعية لمرارة الحياة في قطاع غزة، ذاك الشريط الضيق على الساحل الفلسطيني، إذ يقدم بكثافة تحبس الأنفاس المدينة والمخيمات الثمانية من حولها.
نرى حياة الفلاحين والأسواق الشعبية، تقابلها وحشية الاحتلال، إلى جانب مشاهد تدمير ونسف بيوت السكان الأصليين بالتضاد مع وداعة المنزل الفلسطيني. مفاصل مفاهيمية/ تسجيلية، يستحيل على المادة الصحافية المحايدة تقديمها. تلك التناقضات الجوهرية هي وثيقتنا السينمائية التاريخية الحقّة، تبشرنا باستمرار الثورة المسلحة كخيارٍ أوحد للتحرير.
تظهر لقطة لقنبلة ثم مسدس، تليها لقطة لكاميرا على الخلفية الحمراء نفسها، كدلالة على توحيد مهمتهم. نستمع إلى توثيق دقيق للكمائن التي نفذتها المقاومة، يذكر فيها نوع السلاح والتوقيت والنتائج والمكان. يُترجم هذا كله بصرياً بمشاهد التدابير الانتقامية التي ينفذها العدو.
إنه فيلمٌ تسجيلّي متقن الصنعة، يحمل وجهة نظر وحدة أفلام فلسطين، موجه للشعب من أجل الشعب، كما يقول أبو علي في إحدى مقابلاته. طروحاته تعبويّة تحريضيّة رصينة. مشاهده أيقونيّة تحفر عميقاً في الذاكرة، كصورة الفتى الصغير الذي ينظر بعزيمة وإصرار، والمرأة التي فقدت منزلها. تأتي النهاية مرافقة لصوت انفجار يصم الآذان، ويظهر مانشيت "عاشت الثورة الفلسطينية".
بعد بدايات مرتبكة ومستعجلة وغير مدروسة، رافقت انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965، شكلت سلافة جاد الله قسماً صغيراً للفوتوغراف، يتبع لحركة فتح، ويوثّق بعض التفاصيل البصريّة وصور الشهداء. قسم التصوير السينمائي أتى لاحقاً، كضرورة لمواجهة الماكينة الإعلاميّة الغربيّة. "لا للحل السلّمي"، فيلم صدر عام 1968، ويتفق الباحثون على أنه أول عمل سينمائي تنتجه الثورة الفلسطينية. بعد هذا التاريخ، بدأت الفصائل المُقاتلة بشكيل وحدات سينمائية ملحقة بها، وتعمل تحت إشرافها وبتمويلها.
"وحدة أفلام فلسطين"، هي النواة الأساسية لإنتاج سينمائي فلسطيني، بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية، تكونت على يد الفرسان الثلاثة، مصطفى أبو علي وهاني جوهرية وسلافة جاد الله عام 1973. ساهمت الوحدة، بعدما توسعت أعمالها لتشمل التصوير الفوتوغرافي والأرشفة وتنظيم السينماتك الفلسطيني، في تأسيس "جماعة السينما الفلسطينية"، وبدأت العمل مع وزارة الإعلام الأردنية في قسم السينما.
رافقت الوحدة الثورة الفلسطينية وكفاحها على كافة الأصعدة. وثّقت الاجتماعات والتدريبات العسكرية والعمليات الفدائية، وامتلكت مادة لا تقدر بثمن، ولا يمكن استبدالها أو إعادة تصويرها، واستُخلص منها عديد من الأفلام السينمائية، لها سينماتوغرافية فريدة حساسة ومتحدية، العاملون بها مختصون في المجالات السينمائية كافة، ولا بيروقراطية تقف في وجه النتاج الأخير.
تروي المخرجة والباحثة خديجة حباشنة في كتابها "فرسان السينما سيرة وحدة أفلام فلسطين"، الصادر عن الدار الأهلية عام 2020، قصة ذاك الأرشيف المفقود، وظروف اختفائه الغامضة. حباشنة كانت المسؤولة عن أرشفة المواد المصورة على مدار خمسة عشر عاماً، وتنظيم السينماتك الخاص بالوحدة. في عام 1971، ومع خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، نُقِل الأرشيف إلى بيروت وخُزّن في ظروف مناسبة، واستأنف أبو علي أعمال الوحدة. أتت الحرب الأهلية في بيروت واضطرت الوحدة إلى المغادرة وترك الأرشيف في المخزن لاستحالة نقله بسبب الحجم الهائل للمواد. بعد مرور سنتين، اختفى الأرشيف من دون أي أثر.
تحاجج حباشنة أن الأرشيف موجود في أقبية المخابرات الإسرائيلية، إذ لم يظهر أي أثر له في دول العالم بعد تنقيبها الدقيق الذي دام أكثر من خمس سنوات. تحمل حباشنة على عاتقها اليوم مهمة قدريّة إنسانية، تتمثل بإعادة بناء هذا السينماتك من كل دول العالم التي تملك شظايا من هذا الأرشيف، إذ وجدت بعض المواد في دول متفرقة، كالمغرب وإيطاليا واليابان، معظمها تالف أو مُقَّطع.
بعض ذاك الفتات أعيد ترميمه، كفيلم "مشاهد من الاحتلال في غزة" الذي وجد في اليابان، وأيضاً فيلم "تل الزعتر" الذي وجد في مستودعات شركة إيطالية في روما بعد 36 عاما من اختفائه. الفيلم من إخراج أبو علي وجان شمعون وبينو أدريانو. وثقوا من خلاله المجزرة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين واللبنانيين في لبنان عام 1976، على يد الانعزاليين اللبنانيين المدعومين من إسرائيل والغرب.
مخرجة فلسطينية من جيل آخر لها تجربة سينمائية تتقصى عبرها آثار أرشيفنا التاريخي الذي ضاع في حرب أخرى، هي عزة الحسن في فيلمها الوثائقي "ملوك وكومبارس"، الصادر عام 2004. تتنقل في الفيلم بين سورية ولبنان وفلسطين والأردن، وتسأل متحايلة أشخاصاً مختلفين: هل من شيء مفقود؟
تقابل عزة من تبقى من فرسان وحدة أفلام فلسطين. المخرج والباحث عدنان مدانات، وابنة هاني جوهرية، وخديجة حباشنة، والمدخن الشره مصطفى أبو علي، وحارس الأرشيف المفقود عمر رشيدي، والعراقي قيس الزبيدي الذي أطلقت عليه عزة لقب The Thinker.
الجميع متفقون على أن الأرشيف قد ضاع ولا إمكانية لإيجاده. بعضهم يتجاهل التفكير أو السؤال لهول ما تعرض له من تعذيب وضغوط. يتكَّور أبو علي داخل يأسه بعدما وصَّف الباحث عن الأرشيف كحالم يبحث عن نبتة الحياة، أو كالذي يغني "يا ليل يا عين". آخرون يعتقدون أن الفتات الذي قد نجده سيعتبر إنجازاً.
تذهب عزة إلى شارع الحمرا في بيروت، وتدخل الشقة حيث كان الأرشيف مخزناً. تسأل الجيران ومن كانوا في المكان زمن الاجتياح، ولم تحصل على أي إجابة أو أثر للمنظمة وللأرشيف. يأتي قيس الزبيدي الذي يتعامل مع المنطق باللامنطق، يعتمد على قصص شارلوك هولمز ليجد الأرشيف، ويُصّر على ضرورة البحث بمنهجية غير منطقية. يضع أساساً أولياً لبحثه: أولاً، من خبأه نسي أين خبأه. ثانياً، المخبأ هو مكان ليس بمتناول اليد، مقبرة مثلاً، وهذا استنتاج اللامنطق. يأتي الفعل ثالثاً بعد هذا الاستنتاج، بذهاب عزة والزبيدي إلى مقبرة في بيروت دُفِنَ فيها من قضوا في الحرب الأهلية، ويحاولان نبش القبور التي لا تحمل شواهد، لعلهما يجدان شيئاً.