"السبّاحتان": قصّة حقيقية في سردٍ مبسَّط

28 ديسمبر 2022
سالي الحسيني: تفاصيل واقعية بعيداً عن السياسة المباشرة (جِمَال كاونتس/Getty)
+ الخط -

 

قصّة حقيقية، تجعلها الويلزية المصرية سالي الحسيني فيلماً روائياً طويلاً (134 دقيقة) بعنوان "السبّاحتان" (2022)، تعرضه المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2022. قصّة الشقيقتين يُسرى (ناتالي عيسى) وساره (منال عيسى)، اللتين تتدرّبان يومياً على السباحة، مع والدهما عزّت (علي سليمان)، السبّاح السابق، الذي يُمنع من إكمال حلمه (المشاركة في ألعابٍ أولمبية)، بسبب استدعائه إلى الخدمة العسكرية لمدّة عامين. عزّت يرى في يُسرى أملاً بتحقيق ما يُمنع من إنجازه، فيُزيد الضغط عليها كي تتمكّن من المشاركة، باسم سورية، في الألعاب الأولمبية في ريو دي جينيرو (5 ـ 21 أغسطس/آب 2016). لكنّ انطلاق الثورة (18 مارس/آذار 2011)، وشنّ نظام بشّار الأسد حرباً ضد شعبٍ وبلدٍ واجتماع، يحولان دون ذلك. الحلّ؟ سفر الشقيقتين مع ابن عمّهما نزار (أحمد مالك) إلى ألمانيا تسلّلاً، انطلاقاً من إسطنبول، التي يصلون إليها كسائحين.

المكتوب في نهاية "السبّاحتان" يروي مصائر أفراد عائلة مارديني، إذْ يتمكّن عزّت وزوجته ميرفت (كندة علّوش) وابنتهما الثالثة شدا (ناهل تْزِغي) من الوصول لاحقاً إلى برلين، حيث يقيمون إلى الآن. يسرى تُشارك في الألعاب الأولمبية في طوكيو (23 يوليو/تموز ـ 8 أغسطس/آب 2020) ضمن "فريق اللاجئين الأولمبي"، الذي تُشارك باسمه في ريو دي جينيرو قبل 4 أعوام. ساره معرَّضة للسجن 20 عاماً إنْ تُدنها السلطات اليونانية بتهمة "تهريب البشر"، لكونها تُساعد اللاجئين الواصلين عبر البحر إلى المدينة اليونانية لسبوس، بعد عودتها إلى المدينة نفسها التي تصل إليها مع يسرى عام 2015. السلطات اليونانية تعتقلها وزملاءها عام 2018. "منظمة مراقبة حقوق الإنسان" تصف الاتهامات بكونها "ذات دوافع سياسية"، وتقول "منظّمة العفو الدولية" إنّها (الاتهامات) ظالمة، ولا أساس لها من الصحّة".

بين اللقطات الأولى (مدرسة، عودة الشقيقتين إلى المنزل، احتفال بعيد ميلاد يسرى مع أهل وأقارب) ونجاح يسرى ببلوغ "أولمبيا ريو"، تفاصيل كثيرة عن يوميات الجحيم السوري، والنجاة المتكرّرة من الموت، وأسئلة البقاء والهجرة والهوية والأحلام والمستقبل، ورحلة إسطنبول، والتعرّف السريع (زلّة درامية) على مُهرِّب، والبحر ومخاطره، ولقاء مهاجرين غير شرعيين من جنسيات مختلفة، ومواجهة مخاطر جمّة وعمليات نصب وقهرٍ، ثم لسبوس (بعض أهلها يرفض مساعدتهم) فبرلين. هناك، في ألمانيا، تعثر الشقيقتان على نادٍ للسباحة، وتُقنعان سْفن (ماتياس شْفايغْرُفار) بأنْ يُدرّب يسرى، فتتوطّد العلاقة بينهما لبراعتها، ولرغبته هو أيضاً في تحقيق حلمٍ له.

تفاصيل كثيرة، ولقطات طويلة، تُثير أحياناً شعوراً بمللٍ، رغم حِرفيّة التصوير (كريستوفر روس)، والتوليف (إيان كيتشنغ) يُمكّن التصوير من إكمال المشاهد، وتسلسل المسار الدرامي. الكلام ـ الذي يُقال عن سورية والهجرة والانتماء والهوية والمقبل من الأيام ـ قليلٌ، لكنّه يعكس تفكيراً وإحساساً يبدوان، في "السبّاحتان" (كتابة جاك ثورن وسالي الحسيني) منطقيين وعفويين، استناداً إلى وضعٍ سوريّ كذاك الذي تعيشه سورية منذ إعلان الحرب الأسدية على شعبٍ وبلدٍ واجتماع، واستناداً إلى المتداول عن النهب المنظّم للراغبين في الهجرة غير الشرعية، وظهور نبرة عنصرية في سلوك أوروبيين إزاءهم (يحصل هذا قبيل موافقة أنجيلا ميركل على استقبال عشرات آلاف اللاجئين، بفتح الحدود أمامهم).

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

طول مدّة "السبّاحتان" غير متوافق، كلّياً، مع المادة الدرامية والبصرية والجمالية المُقدَّمة. تصوير سهرةٍ سورية في إحدى ضواحي دمشق، حيث تُقيم عائلة مارديني، يترافق مع قصفٍ بعيدٍ، للقول إنّ هناك تناقضاً بين موتٍ وحياة، وهذا حاصل دائماً في حروبٍ مختلفة. سقوط صاروخ في المسبح الرياضي، لحظة تنافس على الفوز بتمثيل سورية في الألعاب الأولمبية في ريو، يُبدِّل كلّ شيءٍ في سيرة العائلة، والشقيقتين معاً. لقطات المسلّحين (جيش، تنظيمات مختلفة) قليلة للغاية، وبعضهم غير متردّد عن "تلطيش" الشقيقتين عند مرورهما أمامه.

هذا كلّه عادي، لما فيه من مصداقية غير معنية بكلامٍ مباشر في السياسة والأوضاع السورية، بقدر ما يصبو إلى مرافقة يسرى وساره في رحلتهما إلى برلين، والنجاح (يسرى)، في نهاية الفيلم، ومواجهة السجن 20 عاماً (ساره)، بالتعبير عنه فقط. التغاضي عن معاينة أكبر وأعمق للحرب في سورية، وإنْ يكن موقفاً مرغوباً فيه بإنجاز "السبّاحتان"، يُثير "غضباً" يُختَزل بقولٍ مفاده أنّ الفيلم غير متطابق والوقائع السورية، وغير حقيقيّ. استقبال ألمانيا للمهاجرين/المهاجرات، المتمكّنين من الدخول إليها (هناك من يُلقى القبض عليهم، ويُعادون بالقوة إلى بلادهم)، غير مختلفٍ عن الحاصل فعلياً. نجاح يسرى في تحقيق ما تريده منبثقٌ من انفعالها وتوقها إلى ذلك، وإنْ بمساعدة ألماني. قول ساره إنّه لم يعد لها وطن، صادقٌ للغاية، فهذا شعورٌ وتفكيرٌ يمتلكه كثيرون/كثيرات، لأسبابٍ مختلفة. تمسّك يسرى بأنْ تمثّل بلدها في الألعاب الأولمبية، صادقٌ بدوره وحقيقي، لكن الواقع يفرض عليها تفكيراً آخر لإكمال المسار المطلوب.

هذه تفاصيل مذكورة هنا لتبيان بهتان جزء من الحملة على الفيلم ومخرجته. "السبّاحتان" فيلمٌ روائي منبثق من قصّة واقعية. الإطالة في مواكبة رحلة الموت من تركيا إلى لسبوس فـ"أدغال" أوروبا وصولاً إلى برلين، غير محمّلة بما يُخفِّف بعض ملل وبطء في سرد التفاصيل، الذي (السرد) يُفيد غربيّاً لا يزال غير منتبهٍ (وغير مكترثٍ) إلى وقائع الجحيم السوري، وإلى ما في سورية من قدرات بشرية في مجالات أخرى، غير القتل والنهب والبطش والإساءة. الغربيّ، في لطفه الزائد كما في تمسّكه الصارم بقوانين وقواعد، يُسيء بطريقة غير مباشرة إلى اللاجئ/اللاجئة. لكنْ، كما في كلّ مكان، هناك من ينتبه إلى قدرات مختلفة، فيُساعد ويرافق ويتابع قدر ما يُمكنه.

ما يُقدّمه "السبّاحتان"، سورياً وغربياً، غير جديد وغير مخالف لحقائق ووقائع. لا يُحاكم أحداً ولا يُقدِّس أحداً ولا ينتصر لأحدٍ على حساب آخر. ميزته كامنةٌ في محافظته، كثيراً، على سردٍ واقعي مبسّط لحقائق ووقائع معروفة. ربما لهذا يُفترض به أنْ يحثّ، أكثر، على نقاشٍ يخرج من السينما قليلاً، من دون أنْ يتجنّى النقاش عليه بحجج مختلفة، كتناقضه مع الحقيقة (من لديه الحقيقة المطلقة والمؤكّدة؟ وهل هناك حقيقة مطلقة ومؤكّدة؟)، أو كتصويره الناقص مسائل وتفاصيل، يريد مهاجموه تبيانها، متجاوزين بذلك ما ترغب سالي الحسيني في قوله وتصويره وإظهاره، وهذا يُناقش.

كلّ نقاشٍ، رغم أي شكلٍ له، قابلٌ لنقاشٍ مقابل. هذا ضروري ومطلوب. "السبّاحتان" نموذجٌ إضافي عن هذا الضروري والمطلوب.

المساهمون