الدراما المصرية والسلطة: سيناريوهات تشيّد طواحين الهواء وتحاربها

20 يناير 2021
من مسلسل "موجة حارة" (شاهد)
+ الخط -


مرّت الدراما التلفزيونية المصرية، في العقدين الأخيرين، في ثلاث مراحل موحية في علاقتها بالرقابة والسلطة، وبالمَسموح والممنوع من حكايات وشخصيات وسرديات.
مراحل دقيقة جداً في تعبيرها عن تغيّرات الزمن واللحظات التاريخية التي عرفتها مصر. زمن المعارضة الرقيقة اختيار عقدين كمدى زمني لواقع الدراما، مرتبطٌ بأنّ الألفيةَ الجديدة عصرُ القنوات الفضائية، وازدياد إنتاج المسلسلات التلفزيونية، وخروجها ـ شيئاً فشيئاً ـ من سيطرة قطاع الإنتاج التابع للدولة.
في المرحلة الأولى، السابقة على ثورة 25 يناير (2011) المصرية، كانت المسلسلات التلفزيونية تُشبه شكل الحياة في مصر حينها: صوتٌ خافت، وادّعاء بأنّ الأمور بخير، رغم الركام المَخفيّ.
انتمت غالبية المسلسلات إلى "الدراما الاجتماعية"، وناقشت ـ أكثر من أي شيء آخر ـ مشاكل الأسرة، والعلاقات بين الأجيال. كان هناك دائماً حسّ نوستالجيّ، أو حنين إلى القديم، وخلق صورة خيالية للحارة المصرية، التي تتغيّر أخلاقيات أبنائها. يُمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في مسلسلات المؤلّف أسامة أنور عكاشة، في تلك الفترة. هناك أيضاً "دراما الصعيد"، التي تحمل صراعاتٍ وثأراً ورؤية درامية بعيدة تماماً عن الواقع، من أجل التشويق وخلق صورة شبيهة بأفلام العصابات الأميركية في أجواء مصرية.
في ذلك الوقت، لم يكن هناك اشتباك حقيقي مع أيّ شيء يخصّ السياسة أو السلطة في الدراما التلفزيونية. أيُّ تعبيرٍ عن الفساد يحصل من خلال نماذج فردية محدّدة: رجال أعمال أغنياء، كما في "العائلة والناس" (2000) لمحمد فاضل، أو عضو مجلس شعب فاسد، كما في "سكة الهلالي" (2007) لفاضل أيضاً.
وهذا من دون أي ملمح جاد في التناول. قبل الثورة مباشرةً، أُنجز مسلسلان اثنان فقط، بَشّرا بشيءٍ مختلف نسبياً عن السائد، سواء في أسلوبهما الفني أو في تناولهما موضوعيهما: الأول، "أهل كايرو"، للكاتب بلال فضل والمخرج محمد علي. مسلسل بوليسي، يشتبك عبر قصّته مع فساد مجتمعيّ حقيقيّ. يستغلّ كاتبه خبرته الطويلة في الصحافة، ورؤيته المعارضة، لتقديم رؤية للمجتمع في تلك اللحظة.
الثاني، "الجماعة"، للمؤلّف وحيد حامد والمخرج محمد ياسين، الذي يتناول "جماعة الإخوان المسلمين"، وحياة مؤسّسها حسن البنا. بعيداً عن أنّ المسلسل يُقدّم رؤية تتوافق ورؤية الدولة حينها، إلّا أنه يُعتبر فتحاً بحدّ ذاته، لكونه مسلسلاً تلفزيونياً يتناول موضوعاً سياسياً بهذا الشكل.

قبل الثورة مباشرةً، أُنجز مسلسلان اثنان فقط، بَشّرا بشيءٍ مختلف نسبياً عن السائد، سواء في أسلوبهما الفني أو في تناولهما موضوعيهما

هذا كلّه حصل قبل أشهرٍ قليلة من بداية ثورة 25 يناير. اكتشاف الحرية في ذلك الوقت، وتحديداً في الأعوام الثلاثة بعد الثورة، كان الأمرُ مُدهشاً، وكلّ شيء محتملاً. السلطة، أي سلطة، سَقطت في يناير 2011.
الجميع مهتزّون، ولا توجد وسيلة لإعادة السيطرة مجدّداً. الفنانون المصريون كانوا في لحظة مُدهشة: إنّهم يكتشفون الحرية للمرّة الأولى. يُمكن تتبّع أثر النتيجة مباشرةً في النقلة الاستثنائية لمستوى المسلسلات، كتابةً وتنفيذاً ومواضيع مَحكية، في تلك الفترة. كما يُمكن النظر، تحديداً، إلى عام 2013 باعتباره ذروة هذا كلّه. فإلى جانب المستوى الفني المرتفع، الذي جاء نتيجة حماسة مخرجي السينما على تقديم دراما تلفزيونية للمرّة الأولى، بسبب حجم الحرية غير المسبوق، فإنّ المواضيع والنماذج كانت لافتة للانتباه: "موجة حارة" (كتابة مريم نعوم، وإخراج محمد ياسين)، يتناول شخصية ضابط شرطة في وزارة الداخلية، ويشتبك مع مواضيع كالتعذيب وقضايا الآداب والسيطرة على الإعلام، في أحداثٍ تدور في صيف ما قبل ثورة يناير.
هناك "ذات" (كتابة مريم نعوم أيضاً، وإخراج كاملة أبو ذكري وخيري بشارة)، وفيه رؤية بانورامية لمصر منذ ثورة 1952 إلى عام 2011، مع كسر تابوهات كثيرة عن الحكم والشعب وفترة الانفتاح وعصر مبارك. وأيضاً "بدون ذكر أسماء" (تأليف وحيد حامد وإخراج تامر محسن)، الذي يُقدّم تحليلاً دقيقاً لفترة الثمانينيات الفائتة، وتحكّم "الجهات السيادية" في الدولة بكلّ شيء.
حتى المسلسلات الأخرى، الأقرب إلى الترفيه، ككوميديا "الرجل العناب" لشادي علي، والإثارة كما في "نيران صديقة" لخالد مرعي، يُمكن ملاحظة كَمْ تأثّرت بمساحات الحرية: السخرية من الإعلام و"الرجل الشرطي" في "العناب"، وشكل اللغة الحوارية والعلاقات، وتناول شخصية رجل الدولة المخابراتي في "النيران".

حتى المسلسلات الأخرى، الأقرب إلى الترفيه، ككوميديا "الرجل العناب" لشادي علي، والإثارة كما في "نيران صديقة" لخالد مرعي، يُمكن ملاحظة كَمْ تأثّرت بمساحات الحرية

كان هذا قبل أن يتغيّر كلّ شيء في الصيف الرمضاني نفسه. ألف خطوة إلى الوراء في صيف 2013، نزل مصريون إلى الشارع، في 30 يونيو/ حزيران. أعلن وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلّحة حينها، عبد الفتاح السيسي، عزل الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني مُنتخب في انتخاباتٍ نزيهة، من الحكم، مُعتبراً إياه (العزل) "استجابة لمطالب الشعب".
حتى المسلسلات، الأقرب إلى الترفيه، ككوميديا "الرجل العناب" لشادي علي، والإثارة كما في "نيران صديقة" لخالد مرعي، يُمكن ملاحظة كَمْ تأثّرت بمساحات الحرية
منذ ذلك الحين، قرّرت الدولة المصرية، العائدة إلى حكمِ رئيسٍ عَسكري مجدّداً، أنْ تتحكّم في مناحي الحياة كلّها، منعاً لتكرار ما حدث في "يناير". من بين أهم تلك التحكّمات الإعلام والتلفزيون، وعلى رأسها المسلسلات. قرّرت الدولة، بالوسائل المختلفة لسيطرتها (مخابرات وأمن وطني ورقابة على المواد المرئية)، أنْ تحكم السردية المُقدّمة إلى الجمهور بشكل مطلق. مثلاً، لا يُمكن تقديم شخصية ضابط شرطة فاسد. لا يُمكن التعرّض للوضع السياسي الحالي. لا يُمكن ذكر كلمة "ثورة". 

مُقابل ذلك، بدأت تلك الجهات في إنتاج وتصدير "سرديتها" الرسمية، من خلال شركة إنتاج واحدة، "المتحدّة للخدمات الإعلامية"، التي تسيطر على غالبية المسلسلات، إلا نادراً. تلك "السردية الرسمية" لم تتوقّف فقط عند إنتاج مسلسلات عن بطولات الجيش والمخابرات والشرطة (بعضها بطولات حقيقية ضد الإرهاب في الأعوام السابقة)، كالأجزاء الثلاثة من "كلبش" لبيتر ميمي (2017 ـ 2019، بطولة ضابط شرطة)، و"الاختيار" (2020) لميمي أيضاً، عن الجيش (يتمّ حالياً إنتاج جزء ثانٍ)، و"هجمة مرتدّة" لأحمد علاء الديب (عن المخابرات، سيعرض عام 2021، بعد تأجيله من رمضان الماضي).
تلك السردية كانت ترسم صورة رسمية عن مواضيع حاضرة في مصر، لها علاقة بالحريات والمعتقلين والاختفاء القسري. المشكلة الحقيقية ليست وجود تلك "السردية الرسمية"، مهما امتلأت بالتحريف، بل لأنّها السردية الوحيدة المسموح بها، وأيّ مسلسل يُخالف تلك التعليمات، كوجود ضابط شرطة فاسد مثلاً، لا تنال تصاريح تصوير، أو يتمّ إعلام صنّاعها بأنّها لن تعرض في حال لم تُحذَف منها هذه الشخصية أو تلك. هكذا أصبحت المسلسلات تحت سلطة الدولة بشكلٍ كامل، ولا مهرب قريباً من ذلك.

المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.