مع بداية الثورة السورية، ودخول المجتمع في دوامة الفرز والتصنيف، عاش معظم الفنانين السوريين حالة من الانزواء والترقب، في انتظار مآلات الحراك الشعبي. وفيما أظهر بعضهم مواقف واضحة مع أحد طرفي الصراع، تأخر الباقون في إبداء الرأي أو اتخاذ الموقف الصريح، وعمد معظمهم، وتحديداً فنانو الصف الأول، إلى المواربة والنأي بالنفس عن الحديث بالسياسة أو اللقاء الإعلامي، إلى أن اتضحت معالم الحراك. وأوجد النظام والإعلام الرسمي للغالبية منهم المبررات والحجج المناسبة للدفاع عنه، واتخاذ مواقف مؤيدة له، ما لبثت في السنوات التالية للأحداث أن أصبحت موالية وداعمة ومؤثرة وحتى مسوقة لأيديولوجية النظام الحاكم.
يذهب أحد عناصر الأمن في المخابرات السورية الذي فضل عدم كشف اسمه، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أن لكل فنان سوري ملفات خاصة لدى أجهزة المخابرات السورية، تحتوي على معظم القضايا الشخصية التي تمس حياته الأسرية وعلاقاته الخاصة، وكل ما يمكّن الأجهزة من العبث بسمعته الشخصية وأخلاقياته، وبالتالي بمستقبله الاجتماعي والمهني.
يشير إلى أن هذه الملفات لا تأتي عن طريق الصدفة فقط، بل هناك كثير من الدراسة والتخطيط لها، مذكّراً بقصة بعض الفنانات المعروفات اللواتي حاولن كسر الحصار الغذائي عن أطفال درعا في بداية الثورة السورية، وكيف لجأت أجهزة النظام إلى ترويج لقطات جريئة من أفلام قديمة لإحدى الفنانات، بينما اعتقلت أخرى عندما لم تجد شيئاً يسيء إليها شعبياً.
في هذا الشأن، تقول إحدى خريجات المعهد العالي للفنون المسرحية، طلبت عدم الكشف عن اسمها، لـ"العربي الجديد"، إنه يوجد تنسيق واضح ومدروس لدى بعض مدرّسي المعهد في الاختصاصات كافة مع الجهات الأمنية، لتوريط الطلبة والطالبات في مواقف وفعاليات قد تدينهم أو تُستخدم لابتزازهم اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً، في الوقت الذي تراه السلطة مناسباً لمواقفها، وهناك من يسوق لهذه المواقف التي قد تكون مُسجلة أو مُصورة، وهي مدروسة بشكل متقن.
وتوضح أنه كثيراً ما تُستخدم مصطلحات مثل تحرير الجسد من القيود وإطلاق حرية الجسد من أجل الحركة والإبداع على المسرح، والقضاء على الخوف والخجل، لتُستغل هذه الشعارات في خدمة نزوات بعض المدرسين المدعومين من أعلى المستويات في السلطة، ولفتح ملفات تُدين الطلبة في أي وقت.
وتجزم الخريجة العاطلة من العمل منذ سنوات، أن معظم الطلبة يعلمون بهذا ويرضخون له، مجبَرين على أمل التخرج السريع ودخول سوق العمل، ومن يعترض مصيره معروف، إما الرسوب والفصل أو البقاء بلا عمل.
أما عن دراما الحرب السورية التي ظهرت ملامحها بعد مضي سنوات على الحرب، فقد انقسمت بين اجتماعي يُحاكي انعكاسات المأساة السورية بمقاربة مع رؤية وموقف النظام، مثل "فوضى"، و"شوق"، و"غرابيب سود"، و"ضبو الشناتي"، و"قلم حمرة"، و"مسافة أمان"، و"كسر عضم". تلك المسلسلات التي أعطت صوراً في جزء كبير منها حقيقية وواقعية، وأغفلت الجزء الأكبر من الحقيقة، بل سوقت لموقف النظام الواضح والصريح وتصنيفاته المحلية والإقليمية والعالمية، مقابل تمرير بعض الجزئيات من النقد لبعض الممارسات السلطوية، ولما تطلق عليه السلطة الأخطاء التي تقع بها جميع الأنظمة حتى المتقدمة منها.
وعن هذا الجانب من الدراما السورية، تقول مرشدة نفسية لـ"العربي الجديد"، إنه في الوقت الذي كان الجمهور السوري متلهفاً لمشاهدة دراما المأساة السورية، وجدها متخلّفة بخطوات عن الوجع السوري. تشير إلى أنه في الوقت الذي استثنت فيه الملايين من المهجّرين والنازحين والمغيبين والفقراء المسحوقين، إلا ببعض الصور المدروسة بعناية، دأبت على تسطيح قضية الشعب السوري ومعاناته وآلامه، وأضحكت المشاهد على مأساته، كما في "بقعة ضوء" و"ضبو الشناتي".
تضيف أنه على الرغم من اقتراب هذه الدراما من الحال التي وصل إليها معظم السوريين من الضياع والفقد والفقر، فإنها كانت تدعو بكل مفاصلها إلى اليأس والإحباط والاستسلام، وفي أحسن حالاتها للهجرة، وتمتص بكثير من العناية النقمة والحقد على النظام وتقزّمه إلى قضايا صغيرة وشخوص مرسومة بعناية.
في الجانب الآخر، توضح المرشدة أن الدراما تعمل على تغييب الوعي الجمعي وتؤطر آلية التفكير لدى المشاهد ضمن شخوص العمل الدرامي وأحداثه، التي لا تخرج عن إطار القصة الفردية لواحدة من ملايين القصص السورية، وفي أحسن حالات الجرأة، تقدم الجانب الدعائي الديمقراطي للنظام.
أما الجانب الآخر من الدراما، فقد اتخذ منهج التسويق غير المباشر للنظام، وجعل صورة وأفعال البطل الفردي يُقتدى بها وممارسة يومية على أرض الواقع، مُستغلاً انتشار السلاح وهيمنة العصابات وما يُسمى بالفصائل الرديفة، وقد اشتغل على هذا الجانب بسلسلة متواصلة من الأعمال الدرامية مسوقاً صورة البطل بكل سلبياته، كإجرامه، وتسلطه.
هكذا، يُمكن لكل مشاهد أن يتابع مسلسل "الهيبة" بكل أجزائه في شوارع السويداء وطرطوس واللاذقية وحمص ومدن ومناطق سورية عدة، وأيضاً في جزء من المناطق اللبنانية المقربة من النظام السوري، ويمكنه أن يرى أبطال "الهيبة" في مشاهد يومية متكررة في السيارات المفيمة الخالية من لوحات الأرقام أو المزورة والمسروقة، والسلاح بكل أنواعه، وبإطلاق الأعيرة النارية واللباس الأسود واللحى الطويلة، بالإضافة إلى أعمال التهريب والتعاطي وغيرها.