استمع إلى الملخص
- صحيفة "هآرتس"، التي تأسست عام 1919، تواصل نشر تقارير تكشف الانتهاكات الإسرائيلية في غزة رغم العقوبات، وتعتبر مصدراً موثوقاً للمعلومات حول القضايا الفلسطينية والإسرائيلية.
- الإجراءات الحكومية ضد "هآرتس" تعكس توجهاً لتقييد الحريات الإعلامية، مما يهدد حرية التعبير ويثير مخاوف من تأثيرات سلبية على الديمقراطية في إسرائيل.
تعمل الحكومة الإسرائيلية بجد للسيطرة على وسائل الإعلام والتأثير على توجهاتها، حتى لو كان ذلك من خلال فرض "عقوبات" عليها، من قبيل قرار وزير الاتصالات شلومو قرعي قطع الإعلانات الحكومية عن "هآرتس" وقطع أي علاقة معها وأي تمويل لها، حتى الاشتراكات في الصحيفة، وذلك في ظل مواقفها ومحتواها الذي ينتقد الحرب على غزة. وزاد الطين بلة تصريحات لناشر الصحيفة عاموس شوكان الذي قال في أحد المؤتمرات إن "ناشطي الفصائل هم طالبو حرية"، قبل تراجعه ومحاولة توضيح موقفه، عقب الانتقادات الحادة التي طاولته، حتى من قبل صحافيين وكُتّاب في الصحيفة نفسها.
وتتبنّى الصحيفة التي تقول إنها تأسست عام 1919 خطاً يوصف باليساري في السنوات الأخيرة، وإن كانت توجهاتها شهدت تقلّبات عدة، متأثرة بطاقمها ورؤساء تحريرها وجهات وتوجهات أخرى، كما لا يلغي ذلك وجود كتّاب مقالات وصحافيين مع توجهات يمينية يحصلون على مساحة فيها. ويرى جزء كبير أن الصحيفة ليست شعبوية إلى حد ما، علماً أن نسبة انتشارها تراوحت بين 5.1% و5.5% في بداية عام 2022، كما أن جزءاً كبيراً من المواد التي تُنشر في موقعها مفتوحة للاشتراكات فقط.
وعلى الرغم من الحدث العيني الذي دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات ضد "هآرتس"، فإنه لا يمكن التعامل مع ذلك بمعزل عن مخططات أخرى تقودها الحكومة لإغلاق هيئة البث الإسرائيلي وإذاعة الجيش والتضييق على الحريات وانتقادها لقنوات خاصة مثل القناتين 12 و13، ووصفهما باليساريتين، رغم عدم صحة ذلك، بسبب قضايا داخلية أكثر من كونها خارجية. كما يرتبط المشهد الأوسع بخطة تقويض القضاء وغيرها من المشاريع التي تقودها الحكومة التي نجدها راضية عن القناة 14 مثلاً، أكثر القنوات الإسرائيلية تطرفاً وتبنياً لسياساتها وتوجهاتها، حتى في قضية المحتجزين الإسرائيليين، ما قد يفسّر إجراء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مقابلتين في القناة في العام الأخير، فيما يتجاهل القنوات ووسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى.
مع هذا كان لافتاً منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة تغريد "هآرتس" خارج السرب إلى حد كبير، سواء فيما يتعلق ببعض الحقائق بشأن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتناولها العديد من القصص الإنسانية لما يحدث في غزة. وسلّطت الضوء على معاناة المدنيين، وكشفت عن العديد من الانتهاكات الإسرائيلية، فيما تجاهلت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية البارزة تقريباً حقيقة الحاصل في غزة، وتبنّت تماماً السردية الإسرائيلية، وعملت كلب حراسة لدى الجيش، وكأنه لا بشر في القطاع. على سبيل المثال لا الحصر، في وقت عمدت فيه حكومة الاحتلال إلى الترويج لارتكاب عمليات اغتصاب خلال عملية "طوفان الأقصى"، نشرت الصحيفة واحداً من أوائل التقارير التي شككت في ذلك وصعوبة إثبات ذلك. كما كشفت قضايا كثيرة مهمة، منها تفاصيل صادمة عن معتقل سدي تيمان وتعذيب المعتقلين الفلسطينيين فيه، وقضايا تتعلق بالمستوطنين ومخططاتهم واعتداءاتهم في الضفة، وحمّلت السلطات الإسرائيلية مسؤولية الكثير مما يحدث، إضافة إلى الإكثار من اتهامها بالتخلي عن الرهائن الإسرائيليين. لا يعني هذا عدم وجود آراء فيها لمحللين وكتاب مقالات انحازوا أيضاً للجيش أو الحكومة. وشكّلت "هآرتس" مصدراً لوسائل إعلام عربية وأجنبية في الكثير من القضايا التي أثارتها.
يعتبر الصحافي جدعون ليفي واحداً من أبرز الكتاب في الصحيفة من المناصرين للقضية الفلسطينية، وبسبب مقالته وأخرى لزملاء له، شهدت "هآرتس" أزمات حتى مع حكومات سابقة. في مقابلة مع إحدى الإذاعات المحلية أخيراً، علّق على قرار الحكومة قائلاً: "لو كان الأمر بيدهم (في الحكومة)، لفعلوا لنا ما فعلوه بقناة الجزيرة، وبكل بساطة يغلقوننا. هم يعتقدون أنهم هكذا يستطيعون إغلاق الصحيفة. وبرأيي، هذا يعبّر أكثر عن الحكومة وطبيعتها مما يعبر عن هآرتس. لأنهم لا يستطيعون إغلاقنا، يعتقدون أن بإمكانهم بهذه الطريقة إلحاق الضرر بنا. كما يحاولون المساس أيضاً بهيئة البث. هذا الأمر بدأ حتى قبل نتنياهو، ووصل إلى ذروته في السابع من أكتوبر 2023. الكثير من الإسرائيليين يعتقدون أنه بعد السابع من أكتوبر يحق لإسرائيل فعل ما تريده خاصة ضد الفلسطينيين، وأيضاً داخل الدولة بسبب الخراب". أضاف ليفي: "الإعلام الإسرائيلي يخفي ما يحدث في غزة عن الجمهور الإسرائيلي، وهذه من أحلك الفترات لهذا الإعلام الذي يخشى ردة فعل الجمهور، ولذلك لا ينفك يتحدّث عن السابع من أكتوبر، والجنود وبطولاتهم، من دون التطرق إلى الواقع الذي يحدث في غزة ومناطق أخرى...".
وجدت الحكومة في تصريحات ناشر "هآرتس" شوكان ذريعة لتسريع فرض عقوبات على الصحيفة، لكن الأمر يتجاوز القضية العينية، ويتجاوز "هآرتس" إلى تقييد الحريات عامة، بما في ذلك وسائل الإعلام الأخرى ومحاولة إخضاعها لأجندة الحكومة، لكن المؤكد أن الحكومة الحالية تكنّ عداءً أكبر لصحيفة هآرتس من سواها بسبب الكثير من مواقفها وكتّابها. في الآونة الأخيرة، صدّقت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع على مشروع قانون لإغلاق أو خصخصة هيئة البث الإسرائيلي (كان) بقنواتها كافة، بحجة الكلفة الكبيرة المترتبة عليها، ما يعني نهاية البث العام، فيما وجهت جهات حقوقية انتقادات لحكومة نتنياهو بأنها تسعى لتقويض حرية الصحافة والتعبير وتستغل الحرب لملاحقة وسائل الإعلام.
بخلاف "هآرتس"، تماهت "كان" مع السردية الإسرائيلية في حالة غزة مثلاً، وتجاهلت الإبادة، ودافعت عن الجيش. لكن الحكومة كما يبدو تسعى لتطويعها أكثر لجهتها في القضايا الداخلية أيضاً، وقد تحاول نقلها إلى جهات خاصة مقرّبة منها تخدم أجندتها وإلا إغلاقها. قرعي قال في إحدى الجلسات "الليكود هو من أقام سلطة (اليوم هيئة) البث، وهو من يغلقها". قرعي نفسه قال إن بإمكان الحكومة تغيير نظام الحكم. يثبت ذلك محاولات السيطرة على وسائل الإعلام، إلى جانب الانقلاب القضائي الذي تقوده الحكومة للسيطرة على كل شيء عملياً، ومحاولة إضعاف الرقابة عليها. فيما المعارضة الإسرائيلية بائسة وغير موحدة ولا قادرة على وقف هذا المد، كما يبدو الشارع الإسرائيلي منهكاً وغير مبال في المرحلة الحالية. تسعى الحكومة لإخافة بعض وسائل الإعلام التي ما زالت تتمتع بنوع من الاستقلالية، ولا تكتفي بالعدد الكبير من الصحافيين الذين يملأون الصفحات والاستوديوهات مدافعين عن خطها، وتريد الانخراط أكثر في هندسة المفاهيم والوعي.
الكاتب والصحافي المعروف في يديعوت أحرونوت، ناحوم برنيع، انتقد في مقال كتبه في الآونة الأخيرة تصريحات ناشر "هآرتس"، لكنه اعتبر أن القرار يشير إلى طبيعة الحكومة الحالية ونياتها، أكثر من إشاراته إلى الصحيفة وآرائها وتوجهاتها. قال إن "هآرتس" مثل الصحيفة التي يعمل لديها (يديعوت أحرنوت) تصله إلى بيته كل صباح في نفس الكيس، وإن "الصحيفتين مختلفتان، وهذا أمر جيد. كلاهما يقدّم مساهمة كبيرة في تثقيف الجمهور ويقظته وفهمه، وكذلك هي وسائل الإعلام الأخرى، هيئة البث ووسائل الإعلام التجارية". واعتبر أن "في إسرائيل، الإعلام الحر هو مراقب الدولة، وهو المعارضة، وهو الحارس، ودوره أساسي"، في المقابل "وزراء الحكومة الحالية لا يعتقدون ذلك، كما أن الحكومات السابقة لم تكن تحب الإعلام ولم تكن راضية عنه. الفرق هو في الأفعال. عندما تنشر الحكومة والجهات الداعمة لها إعلانات في هآرتس، فإنهم يقدّرون أن هناك قراء سيستفيدون من المعلومات. إن الحكومة لا تقدّم معروفاً لوسائل الإعلام عندما تنشر فيها، فهي تقدم خدمة للجمهور وتفيد نفسها والبلد. لكن وزراء الحكومة- بالإجماع- يرون الأمر بشكل مختلف. إنهم يتعاملون مع ميزانية مكاتبهم كمنفعة شخصية تُمنح لهم، وكمال سياسي إضافي. والأسوأ من ذلك، أنهم يتعاملون مع ميزانية الدولة كوسيلة للابتزاز. إذا امتدحتهم، ستحصل على ميزانيات إعلانية، وإذا انتقدتهم، ستفلس. مشروع التدمير الذي بدأ في هيئة الإذاعة والتلفزيون، يمتد الآن إلى الصحف، ومن هناك سيصل إلى القنوات التلفزيونية والإذاعية والمواقع الإخبارية".
من شأن العقوبات التي فرضتها الحكومة على "هآرتس" التسبب بضرر اقتصادي للصحيفة، ناجم عن إلغاء الاشتراكات والإعلانات الحكومية فيها. ويحمل في طياته أيضاً تأثيراً بحرية الصحافة. قد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها انتهاك لحرية الصحافة وحرية التعبير. كذلك قد تزيد التوتر بين الحكومة ووسائل الإعلام، وتثير مخاوف بين الصحافيين ووسائل الإعلام الأخرى من اتخاذ خطوات مماثلة ضدها في المستقبل.
ويرى المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أن لخطوات الحكومة تأثيراً بحرية التعبير وحرية التظاهر والتدخل الحكومي المتزايد في سوق الإعلام، لكنها لا تقف عند هذا الحد. وعدّد قوانين وإجراءات حكومية أدرجها في السياق نفسه، منها المسّ بحرية التعبير لدى معلمي المدارس، وحذّر من "الإلغاء الكامل والمطلق للبثّ العام في إسرائيل وتغيير جذري في خريطة الإعلام الإسرائيلية" بعد تصديق الحكومة على إغلاق أو خصخصة هيئة البث واتخاذ إجراءات أخرى بحقها. ومن الأمثلة التشدد في تطبيق قانون لمنع ما قد تعتبره دولة الاحتلال إضراراً من قبل وسائل إعلام أجنبية بأمن الدولة، مثلما حصل في وقف عمل قناة الجزيرة، بإجراءات سريعة، وقانون يهدف إلى نقل سلطة قياس نسب الانتشار وطرق قياسها إلى وزير الاتصالات، بدلاً من اللجنة القائمة على ذلك اليوم. وأشار المعهد إلى قطع العلاقات الحكومية مع "هآرتس"، وإلى قانون لتقييد حرية الإبداع ومنع عروض أفلام وغيرها.