الجوائز السينمائية: إنّها جزءٌ من شبكة مصالح رأسمالية

11 مارس 2024
أديل إكزاركوبولوس و"سيزار 2024": دور وطني واجتماعي وإنساني (ستفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -

الجوائز السينمائية: إفادةٌ أم مجرّد "بيزنس"؟

 

الإجابةُ عمّا إذا كانت للجوائز السينمائية ـ الممنوحة للعاملين في حقل السينما من دون مهرجانات، كـ"أوسكار" الأميركية و"بافتا" البريطانية و"سيزار" الفرنسية وغيرها ـ فوائد للسينما والسينمائيين، تستوجب النظرَ إليها من زوايا عدّة، لأنّ تعدّد مستوياتها (الجوائز) السمة الأبرز لها، وكلّها تعمل وفق نظرة شاملة إلى السينما وأفلامها، بوصفها وسيلة تعبير بصرية، اشترطت منذ ظهورها وجود ورش صناعية لإتمام عملية إنتاجها. من هنا، جاء تعبير "صناعة السينما".

مثل كلّ صناعة ـ والحديث هنا عن صناعة إبداعية وفنية وجمالية ـ تشترط توفّر الآليات اللازمة لنجاحها، وما جوائز المهرجانات السينمائية التقليدية، إلى جانب تلك العالمية الممنوحة لمبدعيها من دون مهرجانات، سوى إحدى وسائل الترويج لـ"بضاعتها" الإبداعية.

تدرك هوليوود باكراً ما فعلته أفلامها في العالم، ولمردودها الهائل لا على المستوى الربحي فحسب، بل على المستويين الثقافي والسياسي أيضاً، فتقرّر المضي بإنتاجها، المتوافق مع مسار قومي أكبر، يُكرّس الولايات المتحدة الأميركية إمبراطوريةً رأسمالية جديدة في الطرف الآخر من المحيط. إمبراطورية صناعية، تؤسّس ثقافتها الخاصة، وتتخلّص تدريجياً من عقدة "الثقافة الأوروبية". تكتفي بالكثير والمهم الذي تصنعه في ورشها، وتبيعه لجمهورها. لا تتوقّف كثيراً عند حقيقة أنّ السينما جاءت إليها من أوروبا، فما صار عندها يُغنيها عن الالتفات إلى غيرها. حتى هذه اللحظة، يُقاس نجاح أي فيلم من إنتاجها، تجارياً، بمقدار ما يحصل عليه من شبّاك التذاكر المحلية.

أرادت السينما الأميركية تأسيس مرجعيتها الخاصة بها، وكانت فكرة "أوسكار" (1929) تُغذّي ذلك الميل، وتتوافق معه كاملاً. أرادته، كبقية إنتاجها الصناعي، أنْ يكون كبيراً (ميغا) ومُبهراً، متجاوزاً في طريقة تقديمه كلّ تقاليد المهرجانات الفنية، والسينمائية منها. تقرّر "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها"، المُنظِّمة له، أنْ تكون جوائزها معنوية، فما تحقّقه للفائز بها يفوق كلّ قيمة مالية، وتعرف أنّها في النهاية ستحقّق للحاصل عليها ذلك لاحقاً.

لابتكار نموذج جديد في طريقة اختيارها للفائزين بجوائزها، تقترح أنْ يشترك آلاف العاملين في الصناعة السينمائية فيها، وأنْ تتوسّع جوائزها التي يزيد عددها عن 20 جائزة، لتشمل كلّ جوانب الصناعة السينمائية، تقنياً وجمالياً. هذا يُنبّه مواهب كثيرة إلى أهمية الذهاب إلى حقول أخرى غير الإخراج والتمثيل والتقنيات الرئيسية، كالتصوير والمونتاج، فهناك عشرات الاختصاصات التقنية المُكمِّلة، كالمؤثّرات الصوتية والبصرية والماكياج والديكور، يحصل مشتغلون فيها على جوائزها الخاصة. كثيرٌ من هؤلاء هم من خارج أميركا، وحصولهم على جوائز "أوسكار" تفتح أمامهم أبواباً أوسع في حقول إبداعية نادرة، لا تكتمل صناعة الفيلم من دونها.

ولأنّ جائزتها مخصّصة للسينما الأميركية فقط (أضيفت إليها، في مرحلة تالية من تاريخها، جائزة "أفضل فيلم غير ناطق باللغة الإنكليزية"، ثم عُدّل الاسم لاحقاً فأصبح جائزة "أفضل فيلم أجنبي")، تخلق من دون قصد تواصلاً عضوياً بين الجمهور الأميركي وسينماه، وعلى نطاق أوسع بين السينما الأميركية وبقية العالم. بفضلها، يضحى الجمهور الواسع جزءاً من الجائزة السينمائية، معنيّاً ومهتمّاً بها. مشاهدته الأفلام المرشّحة للفوز بجوائزها تزيد من تفاعله معها، ومع الوقت تسهم في تطوير ذائقته الفنية والنقدية، وهذا كلّه يصبّ في نهاية المطاف في مصلحة السينما، ويؤمّن لها إقبالاً جماهيرياً واسعاً على منتجها الإبداعي، ويضمن له ديمومته.

ربما هذا أحد أفضال "أوسكار"، الذي يُميّزه من بقية الجوائز السينمائية العالمية، التي ظلّت نخبوية إلى حدّ ما، الأمر الذي يدفع صنّاعها، في أوروبا خاصة، إلى التفكير في ابتكار نموذج "أوروبي" جديد ينافس الأميركي، ويكرّس ثقافة القارة، بعد إدراكهم أنّ جائزة "غولدن غلوب" لن تكون بديلاً عن زميلتها الأميركية القوية، رغم اختلاف آليات توزيع جوائزها، واختلاف طبيعة اللجان المُكلّفة باختيارها عن لجان "أوسكار"، المحصورة بالعاملين في الحقل السينمائي فقط . سيدرك هؤلاء أنّ "غولدن غلوب" تريد إيجاد مساحة جديدة ومؤثّرة للصناعة الدرامية، تنافس المنتج السينمائي من دون أنْ تزيحه، أو أنْ تكون بديلاً عنه، بل على العكس، فبحكم توقيت منح جوائزها، الذي يسبق موعد توزيع جوائز "أوسكار"، تساعد ترشيحاتها لأفضل الأفلام على مراجعة حكّام "أوسكار" لخياراتهم، وأخذ ما يجدونه مناسباً منها. من حسناتها، أنّها تتبرّع سنوياً بجزء من أرباحها، المتأتية من حفلاتها، إلى جمعيات خيرية لها علاقة بالترفيه، وأخرى تعمل في حقل الترويج للأعمال التلفزيونية والسينمائية، كما تخصّص منحاً دراسية للراغبين في العمل في حقلي السينما والتلفزيون.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في بريطانيا، تظهر جوائز "بافتا" (1947) معادلاً موضوعيّاً للجوائز الأميركية. بها، تريد "الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون"، المُنظِّمة لها، تعزيز الصناعة السينمائية المحلية، وإظهار الوجه الأوروبي لثقافتها. للتميّز، وأخذ مسار خاص بها، تعطي لسينما الأطفال مساحة كبيرة، وتشجّع على زيادة الأعمال التلفزيونية والسينمائية الخاصة بهم. وتوافقاً مع ذلك، هناك تركيز على تطوير سينما التحريك.

قريباً منها، تؤدّي جوائز "سيزار" الفرنسية (1976) الدور الوطني والأوروبي ذي التوجه نفسه، وتضع لنفسها مساراً يتكامل مع جوائز "كانّ" النخبوية، من خلال تخصيصها جوائز تشجيعية، في فئتي أفضل ممثل وممثلة صاعدة، وأيضاً جائزة أفضل فيلم فرنكوفوني، إلى جانب جائزة فيلم التحريك. جوائز تزيد من ديناميكية الحراك السينمائي الفرنسي، وتخلق مناخاً مناسباً لنشر الثقافة السينمائية الأوروبية بنموذج من داخلها، لا يشبه النموذج الأميركي ولا يستنسخه.

في الأحوال كلها، لا تُستثنى الصناعة السينمائية في الغرب عن بقية الصناعات، في درجة تداخلها وشدة تشابكها مع المصالح الرأسمالية. واقعها يُفرز تناقضات مع الذين لا يتوافقون معها. هؤلاء يشعرون بحيف وضرر يلحقان بهم بسببها. هذا الشعور ليس محصوراً بالعرب وحدهم، بل تتشارك معهم في الشعور نفسه أطراف في الغرب أيضاً. فالأفروأميركيون يشتكون من تهميشٍ لدورهم ومساهمتهم في الصناعة السينمائية لبلدهم، ومن الصورة النمطية السلبية التي تقدّمها عنهم أفلام أميركية كثيرة؛ ومثلهم السكّان الأصليون، وشعوب أخرى خارج أميركا، أرادت السير في طريق سياسية واقتصادية مختلفة عن الطريق الأميركية. السؤال هنا ليس عن نزاهة مطلقة، وحياد كامل للجوائز، فالسياسة حيثما وجدت خرّبت جوانب منها؛ لكنّ المهم كيف يمكن خرق تلك "الحصون" العالية، والولوج إلى داخلها، كي لا يبقى غير المتوافق مع توجّهاتها السياسية خارج أسوارها.

ليس هناك حلّ إلاّ عبر إنجاز أعمال سينمائية جيّدة الصنعة، تفرض نفسها. هذه وحدها تجيز لها الحضور والتنافس على تلك الجوائز، التي لا يصحّ مُطلقاً أنْ يبقى جزء كبير من العالم خارجها. هناك خرق يحدث بفضل "جائزة أفضل فيلم أجنبي" في "أوسكار"، يوصل إليها أفلاماً عربية بفضل جودة اشتغالها السينمائي، وبعضها يصل إلى القوائم النهائية منها. هذا السبيل الفعّال، والأكثر جدوى، للدخول إلى أروقة الجوائز العالمية، من دونه لا الشكوى ولا الحديث عن التمييز والعنصرية الثقافية الغربية يجدي نفعاً.

المساهمون