استمع إلى الملخص
- قدمت فيروز أغنية "إسوارة العروس" بحب للجنوب دون خطاب سياسي، بينما عبرت جوليا بطرس في "غابت شمس الحق" عن الصمود وتخاذل العرب، وساهمت أميمة الخليل ومارسيل خليفة في تعزيز الأغنية الوطنية.
- مع صعود المقاومة الإسلامية، ظهرت أغاني تحتفي بها مثل "زرع التحرير"، واستمرت الأغاني التقليدية عن الجنوب، وبرزت الأناشيد الوطنية المرتبطة بحزب الله، مما يعكس تحولات في المشهد اللبناني.
"خلصوا الأغاني هنّي ويغنوا عالجنوب"، كتب زياد الرحباني في أغنيته "المقاومة الوطنية اللبنانية" (ألبوم أنا مش كافر/ 1985). بالفعل "خلّصوا الأغاني"، من فيروز ووديع الصافي إلى مارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر، وجوليا بطرس، ومعين شريف وعلي العطار.
منذ عام 1982، تاريخ احتلال الجنوب اللبناني (عام 1978 احتل حتى جنوب نهر الليطاني)، تحوّلت هذه المنطقة بأهلها وطبيعتها وبيوتها ومقاومتها، إلى ثيمة مفضّلة في عالم صناعة الأغنية الوطنية اللبنانية. وبقيت ثيمة ثابتة، رغم كل المتغيرات التي طرأت على الأغنية السياسية والوطنية في لبنان، حتى عام 2000، سنة تحرير الجنوب.
فبين ثمانينيات القرن الماضي، ومطلع الألفية الجديد، عرفت الأغنية الوطنية في لبنان موجات كثيرة: من الأغنية الوطنية الخالصة، بعرّابيها الأساسيَين الأخوين الرحباني، إلى الأغنية الحزبية والميليشياوية، وصولاً إلى الأناشيد الدينو ــ وطنية.
لكن وسط كل هذه الموجات كان الجنوب حاضراً دائماً.
شكّلت فيروز مع الشاعر جوزيف حرب وفيلمون وهبي ثلاثياً ذهبياً، فقدّموا لنا أيقونة أغاني الجنوب "إسوارة العروس" (1984). قدّمت الأغنية الجنوب اللبناني بكلام عاطفي (بتضلك حبيبي يا تراب الجنوب)، من دون خطاب سياسي مباشر. أغنية وطنية لأرض محتلة "ما بتقدر تحمل ظالم".
الجنوب الحبيب، سيعود ليظهر بعد عام من إصدار "إسوارة العروس"، لكن هذه المرة بصوت فنانة جنوبية مغمورة حتى تلك السنة، تدعى جوليا بطرس. عام 1985 قدمت بطرس أغنيتها الأشهر "غابت شمس الحق"، رغم طابعها الوطني والعاطفي، قدّمت خطاباً مباشراً (كلمات نبيل أبو عبدو وألحان زياد بطرس) عن الصمود (منرفض نحن نموت قولولن رح نبقى) وعن تخاذل العرب (كلّن يا جنوب باعوك الكلام)، وعن الجنوب نفسه، بصفته أول العالم وآخره (رح نبقى نحن هون ويفنى كل الكون). غنّت الشابة الجنوبية أغنيتها الشهيرة في العام الذين كان الاحتلال يحكم قبضته على المنطقة المحتلة، ويشكل منطقة حدودية عازلة.
عند البحث عن أصوات نسائية، يندر إيجاد أغانٍ لغير فيروز وجوليا بطرس، إلى جانب ما قدّمته أميمة الخليل مع مارسيل خليفة، إذ شكّلا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي واجهة الفنانين الشيوعيين. غنت أميمة الخليل "أرض الجنوب"، عن قصيدة لحبيب صادق، وألحان خليفة، وأعادت نشرها قبل أيام مع تصعيد الاحتلال مجازره في لبنان.
وعلى الرغم من أن مارسيل خليفة كان الواجهة الموسيقية الأبرز للفنانين الشيوعيين في تلك الحقبة، فإن المشهد الغنائي اليساري عرف عشرات الأغاني التي كان بطلها في كل المرات هو الكلام والشعر الذي تقدّم على الأداء واللحن. لنأخذ على سبيل المثال أغنية "جنوبيون" التي غناها أحمد قعبور في ألبومه الأشهر "أناديكم". ثقل الأغنية كله في القصيدة التي كتبها ابن بلدة كفرمان (قضاء النبطية) حسن ضاهر. تغيب الأرض عن الكلام، ويحضر سكّانها "يزرعون الحب والسنابل، والتبغ والرصاص، ويكدحون، فقراء يكدحون، فليلهم طويل، ودربهم طويل، لكن، في عيونهم ألف انتقام... إنهم جنوبيون".
تتلازم سيرة الجنوبيين مع سيرة أرضهم، شهداء ومقاومون ومزارعون، وصيادون... غنى مرسيل خليفة "شدوا الهمة" وكرر في مقطعها الأخير "صوت جنوبي جنوبي بسمع، وشريط الخيانة بقلع"، بينما غنى وليام نصار "على طريق عيتات" التي تروي قصة المقاوم في جبهة المقاومة الوطنية اللبناينة (جمّول)، الأسير المحرر أنور ياسين، بينما غنّى خالد الهبر لبلدات كفركلا وأقحوانها، وعيترون وأطفالها الشهداء الذين قتلهم الاحتلال في مايو/أيار عام 1975، وغنى لأرنون التي تحررت قبل أيام من تحرير باقي الجنوب عام 2000. أعطى الهبر للجنوب قصة، أعطى لقراه حيزاً على خارطة الأغنية الوطنية التي كانت تسمّى ملتزمة، وحاول بالقصائد التي غناها إخراج الجنوب من صفته العاطفية نحو خطاب أكثر وضوحاً.
لكن زمن المغنين الشيوعيين تراجع مع تراجع عمليات "جمّول" وتقدّم عمليات المقاومة الإسلامية (حزب الله). بموازاة هذا التقدّم برزت أغنية أخرى للجنوب. معين شريف أحد أبرز وجوهها، بأغنيته "زرع التحرير"، ومعه جوليا بطرس التي واكبت كل التغييرات في الجنوب صانعة إرثها الغنائي بعشرات الأعمال عن المقاومة والجنوب، أبرزها "عاب مجدك"، و"الحق سلاحي"، أغاني تحتفي بالمقاومة الإسلامية أكثر من احتفائها بالجنوب.
لكن ما بين "الجنوب الشيوعي" و"الجنوب الإسلامي" عشرات الأغاني التي تعاملت مع الجنوب بعيداً عن السياسة، والمقاومة نفسها. الأغنية الأشهر طبعاً تبقى "الله معك يا بيت صامد بالجنوب"، أغنية تقليدية بلحنها وكلامها عن "العز" و"الديب" الذي يريد احتلال البيت الصامد... وغنى نصري شمس الدين في الفترة نفسها "غالي يا جنوب". لا تقارن الأغنيتان، خصوصاً أن الثانية أقل شهرة بكثير من أغنية وديع الصافي، رغم تماهيهما من ناحية ثيمة الصمود، واللحن اللبناني التقليدي الذي كان سائداً في فترة إنتاج الأغنيتين.
في السنوات اللاحقة لتحرير الجنوب، غنى كثيرون للجنوب وتحريره ومقاومته، بالتزامن مع بروز نوع موسيقي آخر مرتبط بحزب الله نفسه، وهو الأناشيد الوطنية التي كان نجمها بشكل أساسي علي العطّار، لكن هذه سيرة أخرى، عن تحولات الأغنية، وتحولات المقاومة وتحولات لبنان نفسه.