من دون شك، وبالقياس إلى مستهل القرن العشرين وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يعيش الأدب الموسيقي العالمي، الذي يسمى اصطلاحاً "الموسيقى الكلاسيكية" أزمةً في الإنتاج والعبور، تشبه إلى حد ما، ما حلّ به في فترة الكساد الكبير إبان ثلاثينيات القرن المنصرم لناحية المقدمات.
انخفاض القدرة على الإنفاق بفعل الأزمات المالية المتلاحقة، التي يصاحبها اليوم للمفارقة هوس بكلّ ما هو إستهلاكي، يجعل من الاهتمام بميادين الفنون المصنّفة في خانة "الجادة" كالشعر، المسرح والسينما إضافةً إلى الموسيقى، في انحسار مطرد مقابل أنواع الإنتاج الأخرى ذات الأثر الترفيهي والعوائد الربحية، أو تلك المادية منها القابلة للاقتناء والتسويق كبعض الفنون التشكيلية ومنتجات فن التصميم.
وبإسقاط المقدمات والنتائج، تلك الاقتصادية منها والاجتماعية لهذا التحول في الذائقة الجمالية، كخصخصة البنى الثقافية المنضوية تحت رعاية حكومات دول الرفاه من فرق ومسارح أو حتى إقفالها نهائياً، فضلاً عن شحّ العطاءات التي تمنح لمؤسسات المجتمع المدني في دول كالولايات المتحدة والمضطلعة كبديل من الحكومات بمسؤولية تغذية تلك البنى، يبقى هامش عريض من المسؤولية عن هذا الكساد الفني، متلازماً مع المالي، ملقياً على كاهل الموسيقيين أنفسهم ورؤيتهم لعملهم فكراً وإبداعاً، فهماً وممارسة.
إشكالية النص
لطالما ارتبط الأداء الموسيقي، ومثله المسرح، بإشكالية النص وتأويله، إذ إنّ الأعمال الموسيقية التي تُؤدى في الحفلات أو تُسجَّل على أسطوانات هي مدونات (نوتات) لإشارات وترميزات انتقلت من زمن حين خطّها المؤلف إلى الزمن الراهن منذ بدايات التدوين الموسيقي الأول. ثم تلاها، منذ نهاية القرن التاسع عشر مع اختراع الفونوغراف وحتى اليوم، مخزون هائل من التسجيلات لموسيقيين أدوا تلك الأعمال فرقاً وفرادى طوال مائة عام ونيف، منها ما قدمها مؤلفوها أنفسهم كموريس راڤيل وريشارد شتراوس وغيرهما ممن تسنى لهم أن يواكبوا حقبة التسجيل عند البدايات.
شكلت كلّ تلك الذواكر السمعية إلى جانب بحوث ودراسات نظرية تاريخية أجراها مؤلفون ثم باحثون في الموزيكولوجيا (البحث الموسيقي) على مدار عصور، ما يمكن أن يوصف بشروح على النص، أسست مجتمعة ميداناً "فقهياً" أصّل المدونة الموسيقية، لتصبح أقرب إلى "نص ديني" محكوم بمرجعيات وضوابط تحرفه عن هدفه الأساس لأن يكون نافذة مفتوحة على فضاء إبداعي رحب. وعليه، ما كان يبتغى منه أصلاً أن يكون متحولاً أصبح ثابتاً وفقد الصلة مع متغير الزمكان والإنسان.
تلك الحالة المتحفية التي تعاني منها الموسيقى الكلاسيكية اليوم، ما خلا نماذج فردية إبداعية قليلة تصبح أقلّ على نحو مؤسف، ترسخت عبر مؤسسات التربية الموسيقية من مدارس ومعاهد منذ منتصف القرن التاسع عشر بلغت أوجها في زمن "سباق التسلح الثقافي" بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة، وجعلت من تلك المؤسسات التربوية أساساً تمارس دور سلطة قيّمة على النص، والمدونة، إذ أثقلت كاهل الفتية أصحاب المواهب الخلاقة بجملة من الموانع والنواهي أفقدت النوتة الموسيقية مجازيتها المفتوحة من جهة، من حيث هي مجموع رموز تصل فضاء المؤلف بفضاء المؤدي ليدلف إليه المتلقي في زمكان ما.
وعملت لزاماً على الحد من حرية المؤدي وأدت إلى ضمور حسّ التأويل لديه بإزاء مكنون المؤلَّف من جهة ثانية. الحال الذي أدى إلى نشوء جيل من الموسيقيين الشباب لا يجيد سوى أن يشبه بعضه بعضاً ولا يضيف أحدهم إلى غيره شيئاً سوى مقدار إجادته لأداء النص وبراعته في نسخ الأصل على ما لُقّن وتأدّب.
من هنا فقدت الموسيقى صلتها بالحاضر، ولم تعد توعد بأي شيء نحو المستقبل، أي أصبحت كلاسيكية حرفياً، لتصبح الحفلات الموسيقية أشبه بطقوس شاي. فالأدوات التعبيرية التي يفترض أن يملكها المؤدي على آلته الموسيقية من طيف واسع لألوان الصوت وتقنية تمكنه من الشحن التعبيري وتحميل اللحن بالأفكار والتصورات. لم تعد متغيرات، بل ثوابت في الأداء. ولم تعد اجتهادات فردية، بل حالة عامة وعرفاً فنياً. وبهذا لم تعد غاية حضور الحفل حضور ذات فنية تتفتح على خشبة المسرح، وإنما الخشبة ذاتها، وما الفنان إلّا ديكور مركون عليها لا يجيد سوى أن يتقن نصاً جامداً مكروراً بمقدار معين زاد أو نقص.
القراءة نفسها
إذاً، لا غرابة في أن يتحول العمل بالموسيقى إلى بطالة مقنعة وأن يتخم ميدانه بآلاف الموسيقيين الشباب الذين لا يجيدون، وإن ببراعة تؤدي دور الإبهار أحياناً، سوى تقديم قراءة هي نفسها لمدونة أصبحت بالنتيجة عملاً قديماً ليس بسبب افتقار مبدعها إلى العبقرية أو مضي زمن بعيد على ولادتها، بل لافتقار مؤديها اليوم إلى القدرة على التأويل الذي كان سيقوده نحو تفرد إبداعي حقيقي يجعل منه وسيطاً إلى زمانه، وليس مجرد سادنٍ مؤتمنٍ على نص من زمان مضى.
إنّ ما جعل أعمالاً لعباقرة بقامة باخ، وموزارت أو تشايكوفسكي تعبر العصور، ليس كمالها ونهائيتها كما يعتقد أغلب المشتغلين بالموسيقى والشغوفين بها على حد سواء، وإنّما حركتها المستمرة وتفتّحها الدائم وقدرتها المدهشة على التواصل مع الإنسان بمتغيراته النفسية، متجاوزةً بيئته أو خلفيته الاجتماعية والثقافية.
ولذا، يجب على الفنان أن يكون متصلاً بالمؤلِّف من خلال ما دونه على الورق من رموزٍ وإشارات، بوعيٍ حر وفكر خاص يمده ليخلق بدوره عند المتلقي دافع الاكتشاف الآني الذي طالما تمتاز الموسيقى بتوليده عند سماعها، ليكون بيتهوفن أو فيڤالدي حاضراً بيننا، مقيماً في زماننا وفي كلّ يوم.