التنانين وأبو الهول والخيول المجنحة والعنقاء، كلها كائنات أسطورية ابتكرتها الحضارات القديمة، ولا نتوقف عن استحضارها في عصرنا. هذه الكائنات الأسطورية لا تزال تلهمنا حتى اليوم وتشكل جانباً من الثقافة البشرية، فهي حاضرة في الأدب والسينما وأفلام الرسوم المتحركة، وحتى في تفاصيل حياتنا اليومية كالحُلي وقطع الديكور التي نزين بها منازلنا.
من أين أتت هذه الكائنات الهجينة إذاً، وكيف احتلت هذه المكانة في التراث الإنساني؟ وما دلالاتها؟ هذه التساؤلات وغيرها يطرحها معرض "الكائنات العجيبة" الذي يستضيفه حالياً متحف اللوفر- لانس حتى الـ15 من يناير/كانون الثاني المقبل. متحف اللوفر- لَنس هو فرع متحف اللوفر في مدينة لينس الفرنسية الواقعة شمال باريس بنحو 200 كيلومتر.
الكائنات الخرافية التي يسلط المعرض الضوء عليها تبدو مثيرة للرهبة والإعجاب في الوقت نفسه، فهي تعبر عن أوهامنا وأحلامنا وخيالنا الجامح، وقد تعكس أيضاً أعمق مخاوفنا وأكثرها قتامة. تحمل هذه الأشكال الهجينة غموضاً عميقاً ولغزاً مدهشاً يتناغم مع ولعنا البدائي بالطبيعة. ترتبط هذه الكائنات غالباً بالغريزة والقوة الجامحة والحكمة، وهي ابنة الطبيعة رغم اختلافها الظاهر عن الكائنات الطبيعة. إحدى أقدم القطع التي يضمها هذا المعرض عبارة عن ختم من بلاد ما بين النهرين، يعود تاريخها إلى نحو منتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد، وتحتوي على نسر برأس أسد.
استندت معظم هذه الحضارات القديمة في أساطيرها ومعتقداتها إلى مثل هذه الكائنات الخرافية. غير أن هذه الكائنات العجيبة لم تندثر بظهور الديانات التوحيدية، فقد ظلت حاضرة في الرسوم والأعمال الفنية المرتبطة بالكتب المقدسة لتبقى حية في ضمير ووعي الناس. تمتلىء الكثير من الرسوم الدينية التي تعود إلى العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبي، وحتى في رسوم المنمنمات الإسلامية، بمشاهد صراع القديسين والصالحين مع الوحوش والتنانين والمردة. إن هذه الكائنات الخيالية التي أبدعتها الحضارات الإنسانية تمثل شهادة على الإبداع الفذ للخيال البشري منذ العصور القديمة.
هي كائنات تتميز بملامحها غير المألوفة، إذ تجمع بين سمات الحيوانات المختلفة، ففي هذا العالم الساحر تنبت للخيول أجنحة، ويمكن أن يحمل النسر وجه وحش شرس، أو نرى جسداً لأسد بوجه إنسان. هذه التوليفات الخيالية التي قد تتمتع بالضخامة والرهبة أحياناً هي مجرد رموز ابتكرها البشر للتعبير عن مخاوفهم، أو انعكاساً لعجزهم أمام القوى الخارقة للطبيعة. لعل ما يجذب الانتباه إلى هذه الكائنات أيضاً أنها تجسد قوى الطبيعة وخصائصها المتناقضة، فهي قد تعكس هيجان البحر أو ثورة الأعاصير وقسوة الرياح، وقد تعكس صفاء الجداول وجمال الغابات، أو تصوراتنا عن المشاعر المجردة كالحب والكراهية. من أجل هذا، تراوح هذه الكائنات الأسطورية بين القبح والقسوة والجمال. بعض هذه الكائنات يحمل سمات شبيهة بالبشر كالوجوه والأيدي والأرجل، كأنها ابتكرت لسد الفجوة بين الإنسان وشركائه من المخلوقات الأخرى. ربما ساهمت هذه السمات البشرية التي تحملها الكائنات الخرافية في جعلها مثيرة للرأفة والرهبة في نفس الوقت.
يضم المعرض أكثر من 250 عملاً تشمل المنحوتات واللوحات والجداريات والأفلام، كما يمتد عبر الزمن من العصور القديمة إلى يومنا هذا. ينقلك المعرض في رحلة فريدة عبر الزمان والمكان، من رسوم الكهوف إلى إبداعات حضارات ما بين النهرين ومصر القديمة. هي رحلة تسترجع تاريخ هذه الكائنات العجيبة من خلال أساطيرها والقوى التي تعبر عنها وبيئاتها المتخيلة. كل قطعة فنية أو أثرية في هذا المعرض هي بوابة إلى النسيج الغني لتاريخ البشرية ورواية القصص والأساطير.
يسلط المعرض الضوء على الجذور القديمة لهذه المخلوقات الخيالية، ويبين أدوارها كرموز للقوة والحكمة والغموض في مختلف الثقافات الإنسانية. لا يقتصر معرض الكائنات العجيبة على العصور القديمة، بل يستكشف أيضاً الحضور الطاغي لهذه الكائنات في عالمنا الحديث والمعاصر، كما يتجلى في الأعمال الفنية للفنانين الرومانسيين وكتب الخيال العلمي والقصص المصورة والرسوم المتحركة.
تتجاوز جاذبية هذا المعرض إلى ما هو أبعد من حدود التاريخ والثقافة؛ إنه يستغل علاقاتنا العاطفية مع هذه الكائنات الأسطورية في عالم تسيطر عليه التكنولوجيا والتغير السريع. إن التعلق بهذه الكائنات والحرص الدائم على حضورها هو تذكير بارتباطنا الجوهري بالعالم الطبيعي وحاجتنا الدائمة إلى لمسة من الغموض في حياتنا. هو ليس مجرد استكشاف للماضي، بل شهادة على السحر الخالد الذي تتمتع به المخيلة الإنسانية.