هل كان يعتقد فنانو الراي خلال تسعينيات القرن الماضي أنّ نمطاً موسيقياً جديداً هو البوب سيكون قادراً على دحض سُلطته الغنائية في المغرب؟ أمام بروز أسماء غنائية وموسيقية شابّة، لم تتجاوز الضفّة الأولى من العمر لكنّها حقّقت نجاحاً كاسحاً، لا يقدر فنانو الراي ولا روّاد الأغنية الأصيلة اليوم على القبض على بعضٍ من ملامحه التجارية.
هذا حال البوب المغربيّ في السنوات العشر الأخيرة، بعدما استطاع اختراق كلّ الأنماط الموسيقيّة والقوالب الغنائية الرفيعة التي شكّلت ذاكرة المستمع المغربيّ، وجعلته أكثر الألوان الغنائية شهرة في العالم العربيّ، لدرجةٍ تجعل مغنياً شاباً مثل سعد لمجرّد (1985) يسجل ديو غنائياً مع اللبنانية إليسا (1972) ويُحقّقان معاً نجاحاً كبيراً.
ليست المرّة الأولى التي ينجح فيها سعد لمجرّد، بعدما راكم الكثير من الأغاني الثنائية مع كلّ من زهير بهاوي في "لوجه التاني" و"إنتي حياتي" مع فرقة كاليما. لا يهمّنا لمجرّد هنا إلا باعتباره فنّاناً ينتمي إلى جيل غنائي جديدٍ جعل البوب المغربيّ يأخذ ميسماً عربياً، بعدما باتت وجوهٌ من قبيل زهير البهاوي وسلمى رشيد ومنال بنشليخة وماريا نديم أكثر شهرة من الأسماء الغنائية الرائدة.
لكنّ الأهمّ في هذه الشهرة أنّ المنصّات الإلكترونية ومؤسّسات الإنتاج الموسيقيّة الجديدة المُستقلّة أصبحت تطرح أصوات بوب جديدة كسّرت معها سُلطة المركزيّة الغنائية. لا أعتقد بوجود نمطٍ غنائي يستطيع مُستقبلاً دحض سُلطة البوب مع وجوهه الشابّة، فنظرة واحدة حول مدى ذيوع كليباتهم تُظهر أنّ ما حقّقوه قد يطمح إليه أيّ فنّان ينتمي إلى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. إنّها سيرة مفاجآتٍ يتحوّل فيها البوب والبوب راي أيضاً إلى علامةٍ فنّية داخل المَشهد الموسيقي المغربي.
يستند البوب إلى إيقاع متنوّع يمزج بين التأليف المغربي الدارج (لغة المحكي اليوميّ) والآلات الموسيقيّة الغربيّة، لكنْ بشكلٍ يُصبح فيه اللحن أهمّ من الكلمة. هذا الأمر يجعله قريباً من الراي على مُستوى التأليف اللحني، لكنْ بشكلٍ يطغى عليه الإيقاع المعاصر، ويُحوّله إلى أغنيةٍ قوامها الترفيه وسندها الاستهلاك.
الراي حقّق شهرته أوّلاً من مدى قُدرته اللحنية مع أصواتٍ مُذهلة من قبيل ميمون الوجدي والشاب مامي وخالد ونصرو وسعيدة فكري، وثانياً بحكم التحامه بدرجةٍ كبيرة مع الواقع المَغاربيّ وما كان يعيشه من أهوال سياسيّة ومآزق اجتماعية. أمّا مع البوب فالأمر يختلف، بعد تحويل الكلام الهش الخالي إلى تأليف مركزيّ يطبع هذه الأغاني.
وتُشكّل الكليبات ميزة هامّة لأغاني البوب، لكونها تُعدّ أحد أبرز العناصر الجماليّة المُشكّلة لجماليّاتها، رغم أنّها تبقى تفتقر إلى الحسّ الإبداعي للصُوَر. إذْ غالباً ما يطغى عليها التنميط الذي يجعل بعض الكليبات مجرّد صُوَرٍ مُصغّرة أخرى أميركية وفرنسية وهندية. هذا الأمر يكاد يتلاشى في كليبات ماريا نديم ومنال بنشليخة، فالأولى تستكشف عبر أغنيتها "ليّام"(2022) عوالم مُتخيّلة تمزج فيها الغرائبي بالواقعي، أمّا الثانية، فنجد أغنية "ما خلاو ما قالو" وقد تحوّلت إلى سفرٍ بصريّ في تخوم التقاليد المغربيّة من خلال فضاءات الأعراس وما تحظى به من شعبية في وجدان المغاربة وذاكرتهم الرمزيّة. مع ذلك، لا ننكر عناصر التجديد التي بدأت تطبع الكليبات الغنائية المغربيّة على مُستوى صناعة الصورة.
لا يستقيم الحديث عن جماليّات البوب المغربيّ بمنأى عن الجانب الموسيقي لأغانيه. على الرغم من ميكانيكيتها على مُستوى الإيقاع وتكرارها المُتعمّد موسيقياً، فإنّها تبقى ناجحة لكونها تتماشى نوعاً ما مع خصائص الموسيقى العربيّة على مُستوى تكرار الوحدة. لكنّ الآلة الغربيّة هي ما تُجمّل هذه الأغاني وتدفعها للبحث عن إيقاع مُتفرّد مُختلف بين آلةٍ وأخرى بشكلٍ تلهث فيه وراء طبيعة الحياة المعاصرة وتكييفها مع أذن المُستمع. ففي البوب يختلط الأصيل بالهجين وكثافة القول بهشاشة الكلام، واللحن يُصبح موجّهاً لكلّ شيءٍ بما فيه الموسيقى.
غير أنّ السرّ الثاوي وراء نجاح هذه الأغاني كامنٌ في عملية تلقّيها من لدن جمهور لم يعُد يُميّز بين الأنماط الغنائية والأساليب الموسيقية. إذْ سرعان ما يرتمي إلى أغانٍ تُسمع لمرّة واحدةٍ فتُنسى كأنّها لم تكُن يوماً، ما يدفعه للبحث مُجدّداً عن أخرى جديدة ذات حمولاتٍ ترفيهية يبقى نمط موسيقى البوب رمزاً أبدياً لها.
أمّا في البوب راي فإنّ الإيقاع الموسيقيّ الصاخب والمُندفع يتراجع إلى الخلف، مُفسحاً المجال لأداء المُغنّي عبر عنصر الصوت. هذا الأمر كان عاملاً أساسياً في بقاء المغني الدوزي في الساحة الفنّية المغربيّة أمام ما يحبل به من قُدراتٍ صوتية كان لها تأثيرٌ كبير منذ نهاية التسعينيات على الأجيال الجديدة.