شق البوب العربي أولى خطواته في الثمانينيات، حين كان البوب الغربي في ذروة مجده. وتلك الفجوة الزمنية، لا تجعلنا نغفل عن ولادة ظاهرة جديدة في الغناء العربي، تُسمى الأغنية الشبابية، التي مثّلت تمرّد جيل.
كانت الثمانينيات مرحلة تحوّل، أخذت فيها الأغاني تبحث عن تعريف جديد لنفسها، بأسلوب مغاير لما كان سائداً. واتسمت الإصدارات، في ذلك الوقت، برتم سريع يضج بالإيقاعات، التي أصبح دورها جوهرياً في تحديد الأسلوب العام للأغاني. وتمثلت تلك الإصدارات بعناصر تجسد أسلوب الشباب في الحياة واللبس، وأيضاً في الاختلاف عن الآباء، بصورة واضحة.
عبّر عن هذا التوجّه مبكراً، الفنان محمد منير بتعاونه مع عازف الجاز والمؤلف الموسيقي يحيى خليل، الذي دمج عناصر الجاز ضمن طابع شرقي. يمكن ملاحظة هذا الفارق، كرؤية في تنفيذ اللحن وإخراجه بأسلوب مختلف. ويتضح ذلك في إعادة منير تسجيل أغنية محمد الحلو "أشكي لمين"، من ألحان بليغ حمدي. نفذ منير اللحن برؤية مختلفة عن الطابع التقليدي لأداء الحلو، معتمداً على صيغة عصرية، بتسريع الرتم اللحني وتغيير التوزيع الموسيقي، من خلال هيمنة الكيبورد والبهجة الإيقاعية، ليجعله أكثر حيوية.
بدأت ملامح البوب تعير أذنها لاستكشاف عناصر لم تكن لها أهمية، مشتقةً سياقاً للتمرد على التقاليد الغنائية. بهذا، حضرت الألحان النوبية، وأصبح بإمكان شاب قادم من ليبيا، أن يبتكر في مصر أسلوباً موسيقياً جديداً لصناعة البوب الشرقي.
فمع رحيل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، كانت صناعة الموسيقى متعطشة لهذا التغيير، والانعتاق من ثوبها القديم. كان جوهر التغيير يكمن في خلق رؤية جديدة للأسلوب الموسيقي، فاقترحت الأغنية لنفسها صيغة أكثر شغباً عن طريق حميد الشاعري، مستفيدة من فقاعة الفرق الشبابية التي غرقت في تقليد الأساليب الغربية.
منح الشاعري البوب الشرقي زخماً، عبر ابتكار أسلوب جديد لإيقاع المقسوم، ودمجه بالتصفيق المدبلج. وكان لأسلوب الشاعر دور في إضفاء زخم إيقاعي راقص، انجذب له الشباب. وخلافاً لألبومه الأول الذي فشل، ساهم هذا التعبير في نجاح ألبوم الشاعري الثاني "رحيل"، الصادر عام 1984.
وهكذا، تحدد سياق جوهري لهذا الاتجاه، يتمثّل في أن نجاح الشاعري كان لا بد له الاتكاء على عنصر شرقي، مثل إيقاع المقسوم. وأصبح طرازاً تصاحبه التصفيقات الضاجة. وهو الطراز الذي طفحت به أغاني الثمانينيات، وكانت سمة موسيقى الجيل، كما سيتم تعريفها لاحقاً، فيما حاز الشاعري صفة الأب. بينما جرى نعت هذا الاتجاه الغنائي بالانسلاخ المشوه عن الغناء العربي الأصيل.
غير أن تلك الموجة بدأت تسجل انتصارات، بلغت زخمها في 1988. وجاءت أغنية "لولاكي" للراحل علي حميدة، كعاصفة اكتسحت سوق الغناء بتحقيق مبيعات قياسية، ما زالت هي الأكبر في العالم العربي. ورغم أن لحنها العادي اتسم بالهتاف المنغم، لكنه حدد توجهات الجمهور، وبالتالي انتصار تلك الموجة على الصعيد التجاري والانتشار. وفي نفس الوقت، باعتبارها المحرك لصناعة الموسيقى العربية.
أيضاً، وفي نفس العام، برز اسم عمرو دياب الذي سيصبح نجم الموجة الجديدة الأول، في ألبوم "ميال". وكان المقسوم الذي صاغه الشاعري بطل المرحلة. في هذا السياق، تولد وعي غير مسبوق لهذا التيار بحس الموضة. وهذا جانب جوهري تتقاطع معه سيرة البوب كأسلوب يتسع لأشكال موسيقية مختلفة، لا يمكنها التجاور خارجه.
فمع نهاية الثمانينيات، كان طراز المقسوم الضاج بالتصفيقات يأفل. وظهر مقسوم تسعيني خال منها، يستند إلى طبول مطعمة بالزركشة. وسرعان ما ظهر مقسوم جديد بتوزيع طارق مدكور لألبوم دياب، "يا عمرنا"، في 1993. يمتاز بفرشة من الدرامز تسير عليها ضربات أقل حدة للطبول. كما أن هذا الألبوم، بالنسبة لعمرو دياب، شهد انحساراً للمقسوم الذي استحوذ على معظم إصدارات ألبوماته منذ "ميال".
كان ذلك العام بمثابة منعطف هو الأبرز لصناعة البوب الشرقي، أو ما اصطلح عليه بالأغنية الشبابية. والجانب الأبرز كان التوسع في استخدام الآلات، إذ ظهرت الوتريات وأصبح لها دور، كذلك الأمر بالنسبة إلى آلات مثل الأوكورديون والساكسفون، بعدما اقتصر الأمر على الكيبورد والغيتار، إضافة إلى الإيقاعات.
دفعت التسعينيات نجوماً للتريث من أجل التقاط الأنفاس وترقب حدود استمراريتهم، لينخرط الكثير منهم ضمن هذا التيار، فكان ألبوم "عاشقة" (1993)، للفنانة سميرة سعيد إعلاناً لانخراطها ضمن تلك الموجة. وربما كانت خسارة أخرى بالنسبة لحراس الغناء القديم. بل إنها أعلنت بتخليها عن ثوبها القديم ابتكار نبرة أكثر حدة، أصبحت علامة طاغية على أدائها الغنائي.
يعتبر البوب ملاذاً لدمج أنواع موسيقية مختلفة، لم يكن بإمكانها التجاور خارجه. غير أن ملامح صناعته في العالم العربي تدين لتطور التقنيات. وهو ما أشار إليه موزع أغنية "ميال"، فتحي سلامة، لافتاً إلى أن عمرو دياب ومحمد منير لم يقدما ابتكاراً بعده، وأن ما قدماه يدين لتطور التقنيات.
غير أن مفهوم الموزع الموسيقي اتصل بالتقنيات الصوتية الجديدة، التي عملت صناعة الموسيقى العربية على مواكبة تطورها. ولم يعد الأمر متصلاً بتحديد مسارات للآلات والإيقاعات، إنما باستيعاب التقنيات الصوتية. وهذا التطور كان له دور في تشكيل الأنماط الموسيقية وطريقة تنفيذها عموماً.
وموسيقى البوب اتكالية أكثر من كونها مبتكرة. فأحياناً يعتمد الموزعون الموسيقيون على عناصر لحنية موجودة، معيدين تنفيذها، بمجاورة أفكار لحنية أخرى، أي إخضاعها لرؤية تنسيقية. لكن المتسابقين كانوا يبحثون عن اختيار عناصر إيقاعية جديدة، أو أساليب موسيقية يمكنها النجاح. فلا يمكن أن ينجح كل ما يمكن استعارته.
وكان أحد أسباب نجاح عمرو دياب، تقدمه بخطوة عن الآخرين في استخدام عناصر إيقاعية أو موسيقية جديدة، وأصبحت علامة له في الظهور بأسلوب موسيقي جديد. فكان أول من قدم أغنية بوب عربية بتوظيف الفلامنكو الإسباني. لكن الأغنية بحسب دياب، لم تكن تجربة مكتملة. وهي التجربة التي اكتملت في أغنية "نور العين"، والتي كانت لافتةً طريقة تنفيذها الموسيقي، فهناك حشد من الطبول الغربية والشرقية، وأيضا كوردات الغيتارات الإسبانية. وأثمر ذلك عن نجاح واسع حول العالم.
تستمر الملامح التقنية بالتطور، خصوصاً في استخدام المؤثرات الصوتية، وبعض أنماط الإلكتروميوزك، مثل الإيمبنت Ambient والتكنو، إضافة إلى إدخال الإيقاعات المبرمجة. كما هو الحال في ألبوم "تملي معاك" لعمرو دياب، بتوزيع طارق مدكور.
كانت الألفية الجديدة مسرحاً لتفجر العناصر الموسيقية، وحضورها جنباً إلى جنب. يبدو ذلك لافتا وبشكل غير مسبوق في ألبوم "علّم قلبي" لعمرو دياب؛ إذ تتسع العناصر الإيقاعية في الأغنية الواحدة. ورغم أن "علّم قلبي" لم يحقق النجاح المعتاد لصاحبه كما سابقه، إلا أنه ربما أكثر ألبوماته نضجاً.
بعد 2007، لم يعد إدخال الأساليب الموسيقية، خصوصاً الإلكترونية، مقتصراً على عمرو دياب، وبالتالي لم يعد هو السباق دائماً، سواء بالإيقاعات أو أنواع الإلكتروميوزك. كما أن الأساليب الموسيقية تتفجر باشتقاقات لا حصر لها، ولا يمكن مواكبة كل ما هو متوفر. لكن، أحياناً، تستجدّ أساليب أو تقليعات معينة، بعضها يستحضر أسلوباً قديماً، مثل العودة إلى السانث والفانك، وفق أسلوب السبعينيات. وكذلك العودة إلى أسلوب المقسوم في بعض الألحان الذي شاع في التسعينيات.
وكما أن المقسوم شكل علامة التحول لموجة البوب، ثم انحسر، إلا أن وجوده ضرورة لأي ألبوم، مثلما أصبح لاحقاً حضور موسيقى الهاوس أو الإلكتروميوزك ضرورة في أي ألبوم. إنها صورة تقريبية لصورة البوب الشرقي منذ بدايته في الثمانينيات حتى اليوم.