الافتراء مجدّداً على قطر... فتّش عن إسرائيل

11 يوليو 2024
تجهيز مساعدات إنسانية لإرسالها إلى غزة في قطر، 9 نوفمبر 2023 (كريم جعفر/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في 20 سبتمبر 2014، تظاهر شبان أمام سفارة قطر في لندن، متهمين الدوحة بدعم حماس، تزامنًا مع حملة صحافية من صحيفة ذا تليغراف.
- بعد عشر سنوات، تتجدد الاتهامات ضد قطر بدعم حماس وعدم الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، مع حملة عالمية لتشويه صورتها.
- الحملة الحالية تأتي في سياق محاولات مستمرة لتشويه سمعة قطر، التي أكدت على حيادها ونزاهتها في الوساطة بين حماس وإسرائيل.

وقف شبانٌ وشاباتٌ أمام سفارة دولة قطر في لندن في 20 سبتمبر/ أيلول 2014، احتجاجاً على ما سمّوه دعم الدوحة حركة حماس "الإرهابية". واتهم هؤلاء، وجُلهم أعضاء في مجموعتي "أصدقاء إسرائيل في ساسكس" و"ملتقى مجموعة العمل الإسرائيلي"، قطر بتمويل المنظمّات الإرهابية. وتزامن ذلك المشهد مع حملة صحافية، كان السبق فيها لصحيفة ذا تليغراف البريطانية التي نشرت حينها سيلاً من المقالات والتعليقات عما كانت تزعمه عن دور قطر في تمويل المنظمّات الإرهابية، مستندة في ذلك إلى تصريحات ودعوات طالب فيها نائبان الحكومة البريطانية بقطع العلاقات الاقتصادية مع قطر بحجّة دعمها "الإرهاب". والمثير للانتباه أن أحد النائبين اللذين حاولت "ذا تليغراف" إبراز صوتيهما هو مايك فرير، مؤسّس مجموعة "أصدقاء إسرائيل" في البرلمان البريطاني، وقد صنفته صحيفة جويش كرونيكل الصهيونية، الصادرة في لندن، واحداً من أهم مائة شخصية مؤثرة في الوسط اليهودي، علماً أنه غير يهودي. أما النائب الآخر ستيفن ياركلي، فهو من أصدقاء مركز إسرائيل للتقدّم الاجتماعي والاقتصادي (ICSEP).

واليوم، بعد عشر سنوات من تلك الحملة، تتجدد الاتهامات المضلّلة ضد قطر مع سيل من إعلانات ومقالات تنشرها جهات مجهولة بشكل منظّم ومتزامن، وعبر عدة دول، وبلغات مختلفة، وبمحتويات تتهم الدوحة بدعم "حماس"، وتحمّلها مسؤولية عدم الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزّة منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وكشف الباحثان مارك أوين جونز وسوهان دسوزا، في تقرير من 77 صفحة نشر الاثنين الماضي، عن حملة كبرى بدأت في نهاية عام 2023، على نطاق عالمي، غرضها الأساسي تشويه صورة دولة قطر، وتتواصل مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة للشهر التاسع. وتشارك في الحملة مواقع إلكترونية مشبوهة تدعو إلى مقاطعة الدوحة، إلى جانب لوحة إعلانية في ساحة تايمز سكوير في نيويورك تنتقد المسؤولين في قطر ومئات الإعلانات التشهيرية عبر منصّة فيسبوك، صادرة عن شبكة مع تشعّبات فيتنامية، بحسب ما نقلت وكالة فرانس برس. وجاء في التقرير أن الحملة الموجّهة ضد قطر مليئة بالمعلومات المضلّلة، وتوظف استعارات معادية للإسلام والمهاجرين. وتبدو منظمة في توزيعها المتداخل بين الإعلانات التي يظهر بعضها في الميادين العامة والتجمعات الانتخابية، مثل الإعلان المناهض لقطر، وقد ظهر في تجمّع أميركي للمحافظين السياسيين، حضره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والعريضة التي ظهرت على موقع change.org.

وأفادت "فرانس برس" بأن الاستقصاء عن الرابط والمشترك بين الحملات المختلفة يكشف العلاقة بين سلسلة من الشخصيات التي تنتج المحتوى المعادي لقطر وتبثّه، من قرصان إلكتروني فيتنامي مأجور إلى معلم مؤثر وزعيم ديني مسيحي في الولايات المتحدة، وكلها على ما يبدو للتغطية على الدماغ المدبّر والمدير لهذه الحملة. ويبدو أن هذه الحملات ذات موارد جيدة، مصمّمة لتأجيج المشاعر ضد قطر في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وجعل أي علاقة مؤسّسية مع قطر "مشعة" (Radioactive)، كما قال الباحث سوهان دسوزا. وقد تستغل العدوان الحالي على غزة "لدفع أجندة كامنة مناهضة لقطر".

ومن المواقع الجديدة التي هاجمت قطر في الأشهر الأخيرة موقع "عار على قطر" (Shame on Qatar)، باللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، إذ يتهمها بتمويل الإرهابيين، ويدعو إلى مقاطعة الرموز المملوكة لقطر، مثل هارودز ونادي باريس سان جيرمان لكرة القدم وفندق نيويورك بلازا. كما ظهر إعلان للموقع في مؤتمر العمل السياسي المحافظ رفيع المستوى (CPAC)، في فبراير/ شباط الماضي. ودعا الإعلان إلى فرض عقوبات على قطر، ووصفها بأنها تهديد أمني. وموقع آخر هو "الأمر بين يديك" (IIYH - It's in your hands)، يستهدف الشيخة موزا بنت ناصر، متّهماً بلادها بدعم الإرهابيين وينتقدها لفشلها في تأمين إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزّة.

حملة غير معزولة ضد قطر

لا تأتي الحملة الجارية ضد قطر معزولة عن سياق عملٍ طوال السنوات العشر الماضية على شيطنة قطر وتشويه سمعتها العالمية، مع تفاوت في الكثافة وتنوّع في المضامين، مثل التقليل من قيمة قطر الصغيرة جغرافياً وديموغرافياً، وشيطنتها، وتصويرها دولة مارقة تحتضن الإرهاب وتموّل منظماته، مع تصويرها و"أدواتها" الإعلامية مصدراً للتخريب وإثارة الفتن والتحريض وتقويض الأمن الإقليمي. ولم تسلم الأعمال والمبادرات الخيرية والإنسانية القطرية من الاتهامات التي تزعم تمويلها تنظيمات إرهابية. وكان أحدث المضامين، وربما أسخفها، ما استند إلى تصريحات وزير الشتات ومكافحة معاداة السامية الإسرائيلي عميحاي شيكلي، الذي اتهم قطر بتمويل احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية ضد حرب الإبادة الدامية في غزّة.

ولا يخفى أن الأزمة الخليجية في العام 2017، وما أحدثته من بيئة معادية في المنطقة واستقطاب حاد في الإقليم، شكلت فرصة عمل لشركات العلاقات العامة والاتصالات الاستراتيجية البريطانية والأميركية البارعة في استثمار الأزمات للتربّح من المشاركة في حملات مدفوعة لتشويه صورة قطر بزعم أنها داعمة للإرهاب، كما فعلت شركة Project Associates، التي أنشأت محتوى إعلامياً وروجته على وسائل التواصل الاجتماعي، يشوه سمعة قطر في حملة حسابات وهمية تسمى @boycottQatar، زعمت إحداها استخدام قطر العمالة القسرية من كوريا الشمالية لبناء ملاعبها، أو شركة الاتصال السياسي "كورنرستون غلوبال"، التي ورّطت في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، هيئة الإذاعة البريطانية في تقرير مُفبرك شكّك بقدرة قطر على استضافة كأس العالم.

وفي فبراير/ شباط 2019، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز كيف عرضت الشركة، وهي استشارية غير معروفة ومقرّها في لندن، "خطّة لتشويه قطر الداعمة جماعة الإخوان المسلمين"، التي تعتبرها بعض الأنظمة منظمّة إرهابية. وسيكون جزءٌ من الخطّة نشر مقالات في وسائل الإعلام البريطانية للإضرار بسمعة قطر. وبالمثل، نظّم السير الأسترالي لينتون كروسبي، الخبير الاستراتيجي في الاتصال السياسي الذي ساعد الأحزاب اليمينية في الانتخابات في المملكة المتحدة وأستراليا، بتنظيم حملة بقيمة 5.5 ملايين جنيه إسترليني لإلغاء كأس العالم في قطر. واطّلعت صحيفة ذا غارديان آنذاك على عرضٍ بعنوان Project Ball يوضح بالتفصيل كيف ستضغط الشركة على الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA)، من أجل إلغاء استضافة قطر كأس العالم ومنحها لدولة أخرى. ومن خلال ربط بطولة كأس العالم الأولى في دولةٍ ذات أغلبية مسلمة بالإرهاب، كانت الشركات تلعب على التحيّزات الإعلامية الموجودة في وسائل الإعلام البريطانية.

وفي وقت سابق، كشفت "نيوريوك تايمز" وموقع ذي إنترسبت الإخباري عن تورّط شركة تنظيم حملات الضغط "كامستول" الأميركية في تنظيم حملة مناهضة لدولة قطر عبر نشر عدة مواد إعلامية في وسائل الإعلام الأميركية. وذكر "ذي إنترسبت"، في مقال كتبه الصحافي غلين غرينوالد، أن مجموعة "كامستول" للاتصال والعلاقات العامة تضم مسؤولين أميركيين عملوا سابقا في الخزانة الأميركية، وكانوا مسؤولين عن العلاقات الأميركية مع دول الخليج وإسرائيل، ومهمّة تعقب مصادر تمويل المنظمات الإرهابية. وكتبت "نيويورك تايمز" أن القائمين على الحملة اقترحوا أن أفضل وقت لتشويه صورة قطر هو التزامن والتوازي بين الملفين المزعومين: دعم قطر المنظمّات "الجهادية الإرهابية"، و"الفساد" في منح قطر تنظيم كأس العالم 2022.

وجاء في تقرير لمؤسسة "ميدل إيست مينوتور – ميمو"، بعنوان "نفاق بريطانيا في علاقاتها مع الخليج"، كتبه أليستير يلون، أن شركات علاقات عامة، ومنها شركة العلاقات العامة والاتصال السياسي "كويلر"، التي تضم في فريق عملها مستشارين سابقين لرؤساء الوزراء في بريطانيا، وقيادات حزبية وصحافيين وإعلاميين سابقين وخبراء في الدبلوماسية العامة والعلاقات الدولية، منهم المتحدّث الأسبق باسم الحكومة البريطانية (أول متحدث رسمي باللغة العربية)، جيرالد راسل، نجحت في تجنيد صحافيين ونوّاب لإذكاء حملة العلاقات العامة المعادية لدولة قطر، والتي ركّزت مرّة على "عدم أهلية" قطر لاستضافة كأس العالم 2022، ومرّة على اتهام قطر بدعم "الإرهاب".

النيل من الوساطة القطرية

تأتي حمله التشويه النشطة التي تتعرّض لها قطر حالياً في سياق الضغط على الدوحة وسيطاً في المفاوضات الجارية بين حركة حماس وإسرائيل، بغرض محاولة دفع قطر إلى الضغط على الأولى للقبول بالشروط الإسرائيلية. ولم تقتصر هذه الحملات على مجرّد تلفيق الاتهامات، بل امتدّت إلى فبركة تصريحات ونسبها لرسميين قطريين، من قبيل التقارير التي زعمت أن "قطر طردت قادة حركة حماس فترة وجيزة بالتزامن مع تعثر محادثات الرهائن في إبريل/ نيسان الماضي"، أو التقارير أن "قطر أبلغت قادة حماس في الأيام الأخيرة بأنهم يواجهون احتمال الاعتقال وتجميد أصولهم والعقوبات والطرد من ملاذهم في الدوحة".

دفعت هذه الاتهامات وحملات التشويه الدوحة إلى الإعلان صراحة، في إبريل الماضي، أنها بحاجة إلى إعادة تقييم جهود الوساطة بين "حماس" وإسرائيل في هذه المرحلة. وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري، آنذاك، إن بلاده "أبدت إحباطها من الهجوم المتكرّر على جهود الوساطة، خصوصاً الجهود المبذولة من قطر"، موضحاً أن وزراء في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أدلوا بتصريحات سلبية بشأن الدور القطري، وأكّد أن الدوحة "لا يمكنها القبول بأي تصريحاتٍ لا تتوافق مع حقيقة دورها في جهود الوساطة"، مشدّداً على أنها "لن تقبل استخدامها من أجل التموضع السياسي أو لأغراض انتخابية من أي طرفٍ كان".

ويبدو أن قطر رأت ضرورة ملّحة لمثل هذا التوقف من أجل إجراء مراجعة لجهودها، ولا سيّما أن رضوخها لهذه الضغوط لم يكن ممكناً، لا سياسياً ولا أخلاقياً، ولا يمكن القبول بالإنحياز إلى طرفٍ بوضع ضغط على الطرف الآخر، فهذا يمسّ بموقع قطر وسيطاً نزيهاً وموثوقاً. كما أن تخلي قطر عن حيادها في هذه المفاوضات لن يمسّ نزاهتها في هذه القضية وحسب، بل سيمسّ سمعة قطر وسيطاً نزيهاً وموثوقاً في فض النزاعات الدولية. وبالتالي، يقوّض رصيداً هائلاً راكمته قطر خلال عقود على الساحة الدولية. كما أن القبول بالانحياز إلى طرفٍ أو الرضوخ لضغوط طرفٍ ما، يمسّ من دون شك برصيد الدبلوماسية القطرية المعترف لها على الصعيد الدولي بالنزاهة والموثوقية. وبالتالي، من غير الممكن لقطر أن تتخلّى عن هذه السمات لعملها الدبلوماسي، الذي صار أحد مكوّنات منظومة القوة الناعمة القطرية، في سبيل إرضاء هذا الطرف أو ذاك، فمكانة قطر تتجاوز الحسابات الضيقة لبعض المعنيين في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة.

وبالتالي، عندما أعلنت قطر عن مراجعة دورها في هذه المفاوضات لم تكن تقصد المناورة، أو التهديد، وإنما كانت بصدد تقييم دقيق. وقد دأبت قطر على شرح وتوضيح علاقتها بحركة حماس، مع توضيح حيثيات استضافة قيادات الحركة في الدوحة، ودأبت على تأكيد أهمية الانفتاح في العلاقات مع جميع الأطراف المنخرطة في أي نزاع أو صراع. وفي حالة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، من الأهمية بمكان الاعتراف بضرورة فتح قنوات اتصال مع "حماس"، كفصيل سياسي له ثقله في الوسط الفلسطيني ومعادلة تسوية النزاع، كما أن المحافظة على قنوات اتصال مع الحركة الفلسطينية سمحت بتقديم المساعدات الإنسانية لأكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في غزّة. أضف إلى ذلك أن الدوحة أكّدت في أكثر من مناسبة أن استضافة مكتب لقيادة "حماس" كان بالتشاور مع الشركاء الدوليين، كما أن الأموال التي كانت تحولها إلى غزّة كانت تصل عبر قنوات دولية، وتُصرف في غايات إنسانية ومدنية.

بصمات إسرائيلية وأخرى

وإذا كانت البصمات الإسرائيلية ليست خافية في حملات استهداف قطر، وأن الذباب الإلكتروني أو الجيوش الإلكترونية الكامنة في فيتنام مموّلة من جهاتٍ إسرائيليةٍ لا تريد للوساطة القطرية النجاح في مهمةٍ إنسانيةٍ أكثر منها سياسية، فمن غير المستبعد أن تكون الحملة الجارية حالياً ضد قطر امتداداً طبيعياً لحملات متتابعة منذ سنوات، بغرض النيْل من دور قطر الإقليمي وحضورها الدولي، وهو الحضور الذي طالما أثار حفيظة بعض دول المنطقة. وربما ركب موجات شيطنة قطر آخرون وجدوا في الماء العكر فرصة للتحريض عليها، إذ تواقح كتّاب ومحلّلون إسرائيليون في وصفها بـ"رأس الأفعى" و"عشّ الدبابير"، وذهب بعضهم إلى المطالبة باغتيال قيادات "حماس" في الدوحة، وغرد سياسيون أميركيون في السرب ذاته، ومنهم السيناتور مايك لي (جمهوري من ولاية يوتا)، الذي زعم على منصّة إكس أن "أيدي قطر ملطخة بالدماء".

ابتزاز سياسي

العمل على معاقبة قطر والتطاول عليها أمر في غير محله وخطير، فهو يفرض تأثيراً مخيفاً يجعل الدبلوماسية، التي تستلزم مفاوضات صعبة مع الخصوم، أكثر صعوبة. كما أن المموّلين والمحرّضين المشاركين في حملات التحريض على قطر إنما يخاطرون بتنفير الوسيط الدبلوماسي الأكثر فعالية في الشرق الأوسط، ولعلّ هذا جاء واضحاً في تصريحات رئيس مجلس الوزراء القطري، وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، عندما نبّه إلى أن "التصريحات المستفزة تقوض الجهود القائمة وتخاطر بالأرواح، ولا يمكن فهمها إلا في سياق الابتزاز السياسي والدعاية السياسية".

المساهمون