تزامناً مع الأزمة الاقتصادية التي تزداد عمقاً وقساوة كل يوم، يشهد لبنان رواجاً للبرامج الإعلامية والتقارير الإخبارية التي تتناول قضايا اجتماعية خصوصاً تلك المتعلّقة بالطفولة. إلا أن غياب ثقافة الحماية، والهوس بالمنافسة وأرقام المشاهدات، جعلت من محطات التلفزيون في أغلب الأوقات مصدر خطرٍ على الطفل، بدل أن تكون شريكاً أساسياً في مواجهة الانتهاكات التي يتعرّض لها.
هكذا باتت التغطيات الإعلامية تعتمد عن قصد أو عن جهل مطلق مقاربات أقرب إلى الإثارة، وهو ما ظهر بشكل واضح خلال ورشة العمل التي نظمتها كل من "يونيسف" ومنظمة "كفى" اللبنانية لمناقشة سياسة حماية الطفل في الإعلام قبل أسابيع قليلة في بيروت.
من بين الانتهاكات الأخيرة، تتحدث الخبيرة الدولية في حماية الأطفال والمستشارة لجمعية "كفى" زينة علوش عن قضية السيدة ليليان شعيتو، التي أصيبت في انفجار مرفأ بيروت وما زالت تعاني من إصابتها في المستشفى، وقد تمكنت أخيراً من رؤية طفلها بعدما حرمها زوجها من هذا الحق مدة سنتين، أي منذ إصابتها.
وتشير علوش، متحدثة لـ"العربي الجديد"، إلى أن "وسائل الإعلام لعبت دوراً أساسياً في الضغط نحو لقاء ليليان بطفلها، ولكن هل كان التقاط الصور الأولى من اللقاء بين الطفل وأمه تصرّفاً صحيّاً؟ هل قدّر المستشفى التبعات الطبية قبل إعطاء الإذن بالتصوير؟"، لافتة إلى أن مثل هذه الأخطاء تسقط فيها وسائل الإعلام من دون أن تبحث وتطرح الأسئلة حول الأثر السلبي الذي يمكن أن يلحق بالطفل، بعد نشر اسمه، وصورته، في لحظات ستبقى في الأرشيف الإعلامي ومتاحة للعموم وعلى منصات الإنترنت لمدى الحياة... ما حصل لا يمكن اعتباره سليماً للطفل من الناحية الاجتماعية".
كما تتوقف علوش عند توظيف وسائل الإعلام لقضايا الأطفال في الصراعات السياسية والخلافات، و"هو يؤثر كثيراً على الطفل، ويعرّضه للتنمّر خصوصاً في المدارس من قبل زملائه في حال شاهدوا الحلقة التي ظهر فيها"، وتشير بشكل خاص إلى حلقة تلفزيونية ظهر فيها أطفال يرتدون ملابس تشير إلى انتماءات أهاليهم الحزبية. لذا تشدد علوش على أهمية عدم تعريض الطفل لأي شكل من أشكال الخطر نتيجة ظهوره الإعلامي، و"التعامل مع كل ظهور علني بمثابة خطر تتحمّل مسؤوليته الأخلاقية والمهنية المؤسسة الإعلامية".
هنا، تتحدث علوش عن الحاجة الماسّة اليوم للالتزام بسياسة حماية واضحة، ومعايير أخلاقية موحّدة تجمع حولها كل المؤسسات الإعلامية، تهدف إلى ضمان مصلحة الطفل الفُضلى، والإنصات لصوت الأطفال وأخذ آرائهم بعين الاعتبار بحسب العمر والنضج والنوع الاجتماعي، وتأمين موافقة للطفل والمسؤولين عن رعايته حول التعاطي مع الإعلام والتبعات المترتبة عن ذلك، وغيرها من المعايير.
من جهتها، تقول المسؤولة في برنامج حماية الطفل في منظمة "يونيسف" في لبنان جاكلين عطوي لـ"العربي الجديد"، إنه قبل عامَيْن، قامت منظمة "كفى" و"يونيسف" بإعداد تقرير يحتوي على الانتهاكات التي رُصِدت خلال التغطيات الإعلامية لقضايا الأطفال الذين تعرّضوا لسوء معاملة، مثل التركيز على حالات فردية بدلاً من تناول الوضع العام للأطفال، والمشاركة العلنية للمعلومات المتصلة بالأطفال الناجين، منها أسماؤهم وأعمارهم وعناوين سكنهم، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى وصم إضافي، ويلحق مزيداً من الضرر على المدى القصير والبعيد. وتضيف عطوي "كما رصدنا أطفالا ناجين طُلِبَ منهم أمام الكاميرا إعادة تمثيل أحداث أليمة تعرّضوا لها، أو الحديث بالتفاصيل المؤلمة عن جرائم وانتهاكات عاشوها".
انطلاقاً ممّا ذكر، تقول عطوي إنه قبل أي تغطية، على وسائل الإعلام ضمان حق الطفل في الخصوصية والسرية والحماية بالإضافة إلى ضمان وصول الطفل وأسرته بشكل مناسب إلى الخدمات الأساسية، الصحية والاجتماعية، والتربوية، وتسهيل اندماج الناجي أو الضحية في المجتمع.
بدورها، تقول الصحافية والمدربة الأردنية في صحافة حقوق الطفل نادين النمري، التي قدّمت دورة تدريبية في بيروت حول "الصحافة الحساسة للطفل"، إن المشكلة تكمن في تقديم الإعلام قضايا الطفل كسبق صحافي، ومحاولة جعل هذه القضايا وسيلة لجذب مزيدٍ من المشاهدات، الأمر الذي يمثل انتهاكاً خطير جداً خصوصاً مع ما يمكن أن يلحق بذلك من وصم للطفل أو إساءة إليه. وتتحدث النمري عن أمثلة رصدتها في الإعلام، مثل نشر وجوه وأسماء أطفال مسلحين، أو الدخول في تفاصيل العلاقة الجنسية بين طفلة قاصر وزوجها...
لذلك تقول إن مقاربة قضايا الأطفال يجب أن تكون أولا بهدف المعالجة، وليس الإثارة، أي الدفع مثلا نحو قوانين تحمي الأطفال بدل الاكتفاء بعرض قصصهم وشهاداتهم بقوالب "رخيصة".
من جهته، يقول رئيس ومؤسس جمعية الاتحاد لكرامة الإنسان (كرامة)، الإعلامي جو معلوف، لـ"العربي الجديد"، إن التعاطي مع قضايا الأطفال لا يزال سطحياً، مشيراً إلى أن الوسيلة الأفضل تبقى عبر المسار القانوني والعمل قضائياً لحماية الطفل.
ويرى معلوف أن مجرد طرح قضية طفل في الإعلام يمكن أن يؤذيه ويلحق به ضرراً وخطراً في حالات كثيرة ويترك بصمة سوداء في حياته.
ويلفت معلوف إلى أن "هذه من الأسباب التي أبعدتني عن الإعلام، الذي في حال عاد إلى الوراء خطوتين وأجرى رقابة ذاتية لاكتشف أن الضرر الذي ألحقه بالأطفال أكبر من الفائدة". ويشير معلوف إلى أن المنظمات الدولية تحاول أن تساعد وتلعب دوراً في قضايا حماية الأطفال، ولكن الدور الحقيقي يجب أن يكون بتعديل القوانين.