الإعلام اللبناني: كراهية النساء والانفصال عن الناس

04 ديسمبر 2021
انعكست الأزمة في الإعلام بعودة الخطاب الرجعي ومحاباة السلطة (حسين بيضون)
+ الخط -

يصعب حصر المشاهد الفاقعة في الإعلام اللبناني التقليدي تحت عنوانٍ واحد، لكنّها تجتمع تحت سهام النقد التي يوجّهها المشاهدون والناشطون والصحافيون، بعدما شهدت الفترة الأخيرة سقطاتٍ على مستوى المضمون أظهرت محاباةٍ للسلطة، تحديداً أحزابها السياسية وأجهزتها الأمنية ومصارفها، على حساب الناس، في ظلّ عودة الرجعيّة إلى الخطاب في قضايا المجتمع والنساء. 

ففي ظلّ الانهيار الذي يضرب البلاد ويشمل قطاعاته الواسعة، يتدهور الحال في وسائل الإعلام، والتي، إنصافاً، لم تكن أصلاً في صفّ الإصلاح والتقدّمية أو الحقوق، لكنّ المحتوى يعكس توجّهاً إلى الابتذال لشدّ الجمهور، وسط بحث تلك الوسائل عن مموّلين وأساليب جديدة للحصول على أرباحٍ قلّت بفعل الأزمة. 

هكذا، يظهر بفجاجة المحتوى الكاره للنساء والمبتعد عن مناقشة قضاياهنّ بأصواتهنّ وبكلماتٍ حقوقيّة تجرّم التنكيل بهنّ، فيحصر الإعلام نفسه في خانة اللاهث وراء المشاهدات، إن عبر الشاشة أو الصحف أو المواقع الإلكترونيّة، ليُعيد نفسه والمشاهدين عشرين عاماً إلى الوراء في الخطاب. وفي موازاته، يظهر المحتوى المحابي للمصارف والمسؤولين عن انهيار لبنان مالياً، كونهم مستثمرين أساسيين في وسائل الإعلام اللبنانيّة. ومعه، تنتشر خطابات السلطة، تحديداً نوابها ووزراءها ورجال دينها، حتى تكاد تكون المحتوى الإخباريّ الوحيد الذي يطرح على الشاشة، باستثناء إعلاميين منفردين اختاروا هم الخوض في ملفّات انفجار المرفأ والفساد والانهيار وتبعاته اليوميّة، إضافةً إلى الحقوق، ما يعرّضهم لحملات كراهية إلكترونيّة لا تتوقف. 

ينفصل الإعلام اللبناني عن الواقع والناس وقضاياهم وحقوقهم

ردة رجعيّة: كراهية النساء ترتفع

عادت البرامج "الاجتماعيّة"، أي تلك التي تناقش الجرائم والقضايا الجدليّة في لبنان بشكلٍ سطحي، إلى الرواج، مع محاولات القنوات اللبنانيّة التموضع في بحثٍ عن انتشار وجمهور ومصادر تمويل جديدة، بعدما طاولت الأزمة الاقتصاديّة تلك المحطّات بشكلٍ كبير. هكذا، عاد الإعلامي مالك مكتبي إلى برنامجه "أحمر بالخط العريض" الذي يبثّ منذ سنوات على قناة "إل بي سي آي" ليتناول مواضيع بأغلبها تتمحور حول العلاقات العاطفية والعائليّة، خصوصاً تعدد الزوجات والرقابة على النساء، وجلّها يتناول الحطّ من النساء ويسمح بنشر ثقافة رجعيّة. فلم تعد القضايا الاجتماعيّة المتعلّقة بالأفراد ومصائبهم (الكثيرة وغير المحصورة في بلدٍ يعصف كلّ يومٍ بكرامات القاطنين فيه) تجذب الإعلام وجمهوره، فنرى مكتبي يلجأ إلى مواضيع كـ"علاقة بين شاب وسبعينية"، و"غيرة أم من بناتها"، و"عدم سماح أب لابنته بالمغادرة أو الخروج إلا بمرافقته"، و"زواج رجل من امرأة ثانية لأنها تغسل قدميه". هكذا، لا تبدو المعيشة بلا ماء وكهرباء أو طعام، أو صعوبة التحصيل الدراسي أو الوصول إلى المدرسة، بخطوطٍ حمراء أو عريضة بالنسبة لمكتبي.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

على قناة "الجديد"، تخرج الإعلاميّة رابعة الزيات ببرنامجها الجديد "فوق 18" لتفتح مواضيع تصنّفها هي بالجريئة، لكنّها في الحقيقة تناقش جرائم وأساليب حياة بطريقة أقرب إلى نقاش التسعينيات الخالي من التوعية والقريب من التشجيع على استمرار النهج هذا، وتسمح بنشر خطابٍ كاره للنساء ومحقّر لهنّ. في إحدى حلقاتها الأخيرة التي أثارت جدلاً واسعاً، ناقشت الزيات العنف ضدّ الزوجات وكأنه وجهة نظر، وليس جريمة يعاقب عليها القانون، وسط ارتفاع في عدد الجرائم المرتكبة بحق النساء خلال الجائحة. سمحت للرجال بالكشف عن "الأدوات" التي يستخدمونها لضرب زوجاتهن، علّ ذلك الخطاب يصل الجمهور المحافظ الذي يؤمن بأحقيّة تعنيف الرجال للنساء، كي يستشفّ منه أدواتٍ جديدة للعنف في المنازل. كلّ ذلك، بينما تعيش نساء لبنان رعباً يومياً فرضته الأزمة، فأجبرتهنّ على البقاء في منازلهنّ وعدم التبليغ عمّا تتعرّضن له من جرائم يوميّة. في حلقة أخرى، تطرح الزيات ملف الجنس، وتسأل، كما كان دارجاً في الإعلام اللبناني قبل عشر سنوات، عن أحقيّة ممارسته قبل وبعد الزواج. تصنّف الزيات وجمهورها تلك الملفات بأنها "خارج الصندوق"، فيما هي في الحلقة في صلب "الصندوق" نفسه، كونها تعيد إلى واجهة الجدل ملفّات بات حسمها من المسلّمات، بعد نضالٍ طويل قامت به نساء وصحافيون نحو تغيير الخطاب.

وفي برنامج "مع تمام" لمقدّمه تمّام بليق، على القناة نفسها، يستضيف المحاور فنّانين في قالبٍ مستهلك يحاول الخروج بتصريحات "ناريّة" منهم بعد "إحراجهم" في الأسئلة. لكنّ بليق يذهب أكثر من ذلك، فيتحرّش بضيفاته، ويحقّرهنّ، كما يحرّض على الكراهية. في مقابلته الأخيرة مع المغنية ليال عبّود، يطلب منها بليق أن "تريه ثمارها". وفي إحدى حلقاته قبل شهر، مع الممثلة اللبنانية ليلى قمري، يتساءل عن سبب كون الممثلين السوريين يحظون بأدوار "أرفع" من الممثلين اللبنانيين. والانتقادات المستمرّة لبرنامج بليق لم توقفه عند حدّ في طريقة طرحه الأسئلة، بل قال في مقابلته الشهر الماضي مع الممثلة اللبنانية أمل عفيش إنه "سئم انتقادات ما يسمى بالإعلاميات وما يسمى بالممثلات"، موجّهاً سهامه ضدّ النساء اللاتي ينتقدنه بسبب طريقته في الحفر في أوجاع الناس ليحصل على تصريحات "موجعة" من فنانين هم أصلاً يئنّون.

هذا على الشاشات، لكنّ الحال في صفحات الجرائد ليس بالأفضل. تنصّب صحيفة ناطقة باسم "حزب الله" في البلاد نفسها كمحرّضة على الكوميديا، كما على النساء. بعد حملةٍ حاولت ترهيب الكوميدي حسين قاووق الذي يقدم برنامجا ساخراً بعنوان "شو الوضع" على قناة "الجديد"، ساهمت الصحيفة في إذكائها مستخدمةً عنوان "تنميط" البيئة الشيعيّة، نشرت مقالاً تحريضياً ضدّ الناجيات اللاتي كشفن جرائم الاغتصاب والتحرّش بهنّ التي ارتكبها الأب منصور لبكي الذي جرّمته محكمة فرنسيّة الشهر الماضي، على قاعدة "اغتصب بس رتّل"، كما سخر الكثير من اللبنانيين. وفي صحيفة "الشرق" التي يملكها نقيب أصحاب امتيازات الصحف في لبنان، واسمها "نقابة الصحافة"، عوني الكعكي، فتستمر في نشر أغلفة تسليعيّة للنساء، تتضمّن ضمن ما تتضمّنه، مغالطاتٍ وأخبارا كاذبة، بينها دأب الصحيفة على تصوير المغنيّة دوا ليبا كوزيرة للعدل في أرمينيا، مع عنوان "يا هيك الوزراء يا بلا". 

انفصال عن الناس: نحن وهم والآخرون

في المقلب الآخر، تتعمّق الهوّة بين "نخبة" و"سلطة" في وسائل إعلام لبنانيّة، وبين المواطنين والمقيمين على الأراضي اللبنانيّة الذين يغرقون في الأزمة التي باتت تستفحل يومياً وتضيّق الخناق على احتمالات عيشهم. في السياق هذا، أطلقت صحيفة "النهار" اللبنانيّة، هذا الأسبوع، حملةً بعنوان "اعطوا لبنان فرصة"، شارك فيها صحافيون و"إنفلونسرز" وفنانون ورياضيون، دعوا الأحزاب ومكوّنات السلطة اللبنانيّة لمنح "إجازة" للبنانيين من "الاشتباك" و"خطاب الكراهية" كي يتسنى للبنانيين القادمين لزيارة أقربائهم خلال الأعياد الحصول على راحة، لم تنتبه الصحيفة، ربما، إلى أنّها ممنوعة على المقيمين على الأراضي اللبنانيّة كلّ أيام السنة. الحملة المنفصلة عن الواقع والتي لا تراعي اللبنانيين الفقراء ومشكلاتهم المتعددة استدعت انتقادات واسعة، تحوّلت إلى سخرية. والصحيفة التي تعيش أزمةً مالية منذ سنوات أدّت إلى عدم دفعها رواتب موظفيها لأشهرٍ طويلة، دأبت منذ سنوات على إنجاز حملاتٍ إعلانيّة شاركت من خلال في مسابقات جوائز وكسبت بعضها. 

 

الصحيفة نفسها، تحمل نفس السلطة في طيّاتها، وهي التي أتت بحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، عام 2018، ليترأس تحرير عدد خاص بعنوان "الكل في جريدة"، كان لمسؤولين في السلطة السياسية والمالية، كما لفنانين ومشاهير، كتابات فيها، تحدثت عن "القفزة نحو لبنان"، وتطلعات هؤلاء المسؤولين الذين كان بينهم رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء السابق سعد الحريري، من دون أن يكون هناك أي انعكاس لصوت الناس فيه. بعد عامٍ واحد على ذلك العدد، بدأت الأزمة الماليّة في لبنان تشتدّ، قبل أن يخرج الآلاف في انتفاضة 17 تشرين (2019)، والتي استفحلت وصولاً إلى الانهيار في عامنا هذا.

وفي سياق الانفصال عن الناس نفسه، لاقت قناة "إم تي في" انتقادات واسعة لإعطائها المساحة للنائب ابراهيم كنعان وابنته كي يتحدّثا عن صعوبة هجرتها من لبنان كي تتعلم في باريس. هذه الاستضافة تزامنت مع هجرة الكثير من اللبنانيين، والذين تتحدث عنهم المذيعة في الفقرة، لكنّ ما أثار الغضب هو منح هذه المساحة لنائب مساهم في السياسات التي أوصلت لبنان إلى حاله هذا، وسط صعوباتٍ خانقة تواجهها الفئات الأكثر فقراً، كعدم قدرة أسر على تأمين غذاء لأطفالها الذاهبين إلى المدرسة.

سلطة تعزز وجودها

في مقابل الانفصال عن الناس واللجوء إلى الذكوريّة والأبويّة لحصد الجمهور، يظهر صحافيون يعترضون على حال الإعلام في المحتوى والتبعيّة للسلطة وأحزابها ومصارفها وأجهزتها الأمنية، في مقابل تمترس السلطة وراء منابرها ومؤسساتها.
هكذا، حشد الصحافيون المؤيدون للسلطة أنفسهم في انتخابات نقابة المحررين اللبنانيين التي جرت يوم الأربعاء الماضي، وترشح فيها مستقلّون صوّبوا على عدم شرعيّة النقابة، لكونها لا تفتح أبوابها لتمثيل جميع الصحافيين، بل تضمّ فقط من سيصوّتون لهيئتها المفروضة مباشرةً من السلطة. في الانتخابات، فازت لائحة "الوحدة النقابية"، وعاد النقيب جوزيف القصيفي كما عدد من أعضاء الهيئة الـ12 الذين يُعاد انتخابهم لدورة ثانية وثالثة، فيما تحضر أسماء جديدة، بينها رئيس تحرير أخبار "إم تي في" وليد عبود، علماً أنّ هناك نقابة للإعلام المرئي والمسموع في لبنان تختلف عن نقابة المحررين، وعلماً أنّ الأخيرة لا تفتح جدولها لمحررين للانضمام إليها. وذلك التمترس لا يمكن فصله عن خوف السلطة من فقدان السيطرة على جميع نقاباتها، كون الانتخابات الأخيرة في نقابات مهنيّة أظهرت تقدّماً لمعارضين.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

لكنّ الأزمة لا تمنع ظهور مؤسسات إعلاميّة جديدة، تحابي السلطة، وإن عارضتها في بعض الأحيان. ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ظهرت منصّة بالفرنسيّة تحت اسم "إسي بيروث" تنشر معلومات وتحليلات عن الأوضاع في لبنان، سرعان ما ظهر نهجها التحريري عبر نشرها بيانات ومقابلات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وترويجها لها على مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك أعلن الإعلامي طوني خليفة أنّه سيؤسس محطة إعلامية من دبي بمشاركة إعلاميين لم يسمّهم، وفق مشروع طلب الاستثمار فيه، في مقطع ترويجي، من دون أن يقدّم الكثير من التفاصيل.

هذا فيما يدرّ بهاء الحريري، رجل الأعمال ونجل رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، بأمواله التي يستثمرها في مؤسسته الإعلامية SBI ويستثمر في مؤسسات تقليديّة أخرى، بينها "إم تي في" و"إل بي سي آي"، بما يضمن عدم انتقاده هو أو مشروعه السياسي. وفي الوقت نفسه، يعتزم شقيقه، رئيس الوزراء السابق، سعد الحريري، إعادة افتتاح قناة "المستقبل"، لترويج مشروعه السياسي في الانتخابات النيابية المرتقبة ربيع عام 2022، بعدما أغلق الحريري خلال العامين الماضيين أغلب وسائل الإعلام التي استثمر فيها مباشرةً أو بشكل غير مباشر، وبينها مؤسسات عريقة في الإعلام اللبناني، نتيجة الأزمة الماليّة فيها.

المساهمون