الإعلام الجنوبي الجزائري... تجارب ناشئة تواجه الجغرافيا

16 يناير 2021
تبرز الحاجة إلى إعلام ينقل أحوال جنوب الجزائر ويوميات سكانه (Getty)
+ الخط -

تشهد منطقة الجنوب الجزائري في الفترة الأخيرة بروز تجارب إعلامية عدة، ثمرة جهود نخب إعلامية محلية، اجتهدت لإنشاء صحف ورقية مستقلة، تعنى بشكل خاص بمشكلات المنطقة وأحداثها وثقافتها المحلية، على غرار صحيفتي "الجنوب" في الأغواط، وأسبوعية "الجنوب الكبير"، وصحيفة "الطاسيلي" في ولاية اليزي أقصى جنوبي الجزائر، وصحيفتي "الجديد" و"التحرير" في ولاية الوادي.

وتطورت بعض هذه التجارب إلى محاولة إنشاء قنوات تلفزيونية على الإنترنت في المرحلة الأولى ثم على الساتلايت، كما هو الشأن بالنسبة إلى قناة "التحرير" و"الجديد"، غير أن هناك تجارب جديدة اقتحمت مجال التلفزيون مباشرة، كقناة "الغزال" وتلفزيون "الصحراء".

يمكن ملاحظة أن أكثر التجارب الصاعدة في الإعلام الجنوبي تتمركز في ولاية وادي سوف، والأمر له علاقة مباشرة بكون هذه الولاية نجحت إلى حد كبير في تطوير البنية التحتية للاقتصاد المحلي، ما خلق برجوزاية محلية اتجهت إلى الاستثمار أيضاً في الإعلام، أو لها في عائلاتها اهتمام بالإعلام، وتراوح رغبتها بين خلق وتشجيع نشوء إعلام محلي، وبين رغبتها في تكرار تجارب لبرجوازيات مركزية امتلكت وسائط إعلامية لغايات مختلفة.

قبل عام، تحديداً في الثامن من يناير/ كانون الثاني عام 2020، انطلق بث قناة "الغزال". ببعض العزيمة خاض فريق صحافي مشروع إنشاء "الغزال" في مدينة وادي سوف، لتكون نبضاً إعلامياً في الجنوب الكبير.

يقول مدير القناة ومؤسسها الصحافي محمد العيد لبيهي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "تجربة قناة (الغزال نيوز) ليست وليدة الصدفة، بل نضال مهني لسنوات، والتفكير في إنشاء فضائية في الصحراء الجزائرية كان حلماً يراودنا من زمن. عام 2012 باشرنا إجراءات تأسيس قناة فضائية في الأردن، إلا أنّ الظروف المالية حالت دون ذلك، لتنفرج الأمور بعدها، وينطلق مشروع (الغزال نيوز)، واخترنا تسمية لها رمزية ودلالة ترمز إلى الصحراء وإلى الإعلام أيضاً من سرعة ووثب".

ورغم الكثير من الصعوبات التي واجهت المشروع، لا يبدي محمد العيد لبيهي أي حسرة على خوض التجربة. ويقول: "هي في النهاية تعتبر تجربة تاريخية بحكم أنه أول مرة تشهد الصحراء والجنوب قناة فضائية في تاريخ الجزائر المستقلة، والقناة تعززت بصحيفة ورقية مع نهاية العام المنصرم 2020، ما تعتبر خطوة هامة، قد يمكنها ذلك من امتيازات هي نفسها التي تستفيد منها وسائل الإعلام الوطنية".

محمد العيد لبيهي: لا تفهم البرجوازيات المحلية دور الإعلام، وهناك فجوة كبيرة بين الإعلام وذهنية هذه المناطق التي لا تؤمن بالإعلانات

ويطرح مدير القناة مشكلة تواجه القنوات المحلية في الجنوب، تتعلق بعدم فهم البرجوازيات المحلية لدور الإعلام. ويقول إنّ "منطقة وادي سوف تعجّ برجال المال والأعمال، لكن الجزء الغالب لا يقدم أي منحة للمشاريع الثقافية والإعلامية. مشكلة تمويل قناة (الغزال نيوز) نموذج، إذ لم تحصل على دينار واحد تمويلاً أو دعماً من رجال الأعمال المحليين. عندما أطلقنا القناة، كان هدفنا إخراج الإعلام من المركز إلى الأطراف، وهو حق طبيعي حتى ننزع تلك الفكرة، أن العواصم منبع كل نجاح. إلا أنه للأسف وجدنا فجوة كبيرة بين الإعلام وذهنية هذه المناطق، التي لا تؤمن بالإشهار (الإعلانات)، الصنف الثاني، أصحاب المال الطبيعي، تجدهم منبهرين بكل ما هو خارج الولاية أو المنطقة، ومن ثمة تجدهم يقارنون قنواتنا المحلية بقنوات كبيرة قد تستهويهم لضخ الإشهار فيها".

ويشير إلى أن "تجربة الإعلام الجنوبي الذي تحتل فيه مشاكل الجنوب وثقافته الحيّز الكبير وتكون فيه الأولوية للاهتمام وللحبر المحلي تجد صعوبة كبيرة في الصمود، أولاً لانعدام التمويل، وثانياً لبعده عن الحركية والأنشطة والضيوف، مقارنة بالقنوات في العاصمة، ولكونها لا تستفيد بشكل واضح من الإشهار".

اشتغل الصحافي أبو بكر العربي، ولا يزال، في صحف عدة مقارها المركزية في العاصمة الجزائرية، ناقلاً مشاكل السكان وتغطية الأحداث المختلفة في ولايته أدرار، وهي من كبرى الولايات الجزائرية في منطقة الجنوب.

أبو بكر العربي: بعض المناطق لا تصل إليها وسائل الإعلام إلا خلال الزيارات الرسمية للوزراء والولاة

يشير في حديثه عن تجربة الإعلام الجنوبي الناشئ إلى أنّ "ما هو موجود من منابر إعلامية محلية خطوة نحو تعزيز جهود فك العزلة عن المنطقة التي لا تزال في حاجة إلى مواكبة إعلامية لواقعها ويوميات سكانها. فبعض المناطق لا تصل إليها وسائل الإعلام إلا خلال الزيارات الرسمية للوزراء والولاة، ما يبقي الإذاعات المحلية الوسيلة الوحيدة الحاضرة عبر شبكة مراسليها"، منوهاً إلى أنها تبقى تجربة بحاجة إلى مزيد الدعم والإسناد لنجاحها، وخاصة ما يتعلق بتكوين الكادر الإعلامي والاستثمار في العنصر البشري في المنطقة.

ويضيف: "هناك العشرات من خريجي معاهد الاتصال وكفاءات بحاجة لفرص، وبالإمكان من خلال فتح مكاتب محلية للقنوات الإخبارية والعامة المساهمة في إنعاش القطاع وتمكين السكان من حقهم في الإعلام ونفض الغبار عن مكنونات المنظقة الثقافية والسياحية وتعزيز ارتباطها بالمجموعة الوطنية، وخاصة في ظل الظروف الراهنة"، مضيفاً أن "المؤسسات الإعلامية المستقلة البارزة في الجزائر عاجزة أيضاً عن فتح مكاتب لها في أغلب ولايات المنطقة، وتكتفي باعتماد بعض المراسلين وتكليفهم العمل وتغطية أكثر من منطقة، فيما يبقى الكثير من الولايات المنتدبة (الجديدة) في حاجة إلى مكاتب إعلامية، كولايات تيميمون وبرج باجي ختار جانت وعين قزام".

الجغرافيا الواسعة والمشكلات التقنية وغياب الدعم الحكومي أبرز العقبات أمام نمو الإعلام جنوب الجزائر

وإضافةً إلى مشكلة الجغرافيا الواسعة التي تغطيها التجارب الفتية للإعلام الجنوبي في الجزائر ومعاناته من مشكلات عميقة تقنيا وفنياً، يعاني أيضاً من نقص الدعم الحكومي، برغم الكثير من الوعود والمضامين التي تعلنها الحكومة في السنوات الأخيرة بشأن دعم الإعلام الجواري والمحلي وتحكم الدولة في الإشهار (توزيع الإعلانات)، وخاصة في منطقة الجنوب والصحراء عموماً، إضافةً إلى ذات البيئة القانونية والمحددات والعوامل السياسية التي تحكم عمل المؤسسات الإعلامية والصحافيين في الجزائر.

وفي السياق، يرى الناشط المدني والكاتب المهتم بالشأن الثقافي عبد الحميد إبراهيمي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن التجربة الإعلامية في الجنوب ما زالت في بدايات تشكلها كإعلام محلي، لكنها لم تجد بعد الرواق الذي يحولها إلى إعلام ناقد وضمن السلط المضادة لكشف المشكلات والفساد والمطالب العميقة للمنطقة، ولتقديم النخب المعبرة عن المنطقة ثقافياً وسياسياً.

عبد الحميد إبراهيمي: صحافة الجنوب لم ترق بعد إلى صحافة الرأي والنقد أو وظيفتها كسلطة رقابة

ويقول: "تجربة الإعلام الجنوبي ما زالت حديثة النشأة، ومن الظلم إعطاء تقييم شامل حولها، نظراً لقلة الإمكانات المادية والبشرية المتخصصة ونقص التجربة والخبرة بحكم حداثة فتح تخصص الإعلام والاتصال في جامعات الجنوب". ويضيف أنّ ما يمكن أن تسمى "صحافة الجنوب" ما زالت مصنفة ضمن صحافة الخبر تنقل مجمل الأحداث اليومية المحلية والوطنية، لكنها لم ترقَ بعد إلى صحافة الرأي والنقد أو وظيفتها كسلطة رقابة، خصوصاً في تلك المواضيع المتعلقة بالشأن السياسي أو قضايا الفساد، إذ يلحظ حذراً شديداً في تناولها "ربما لهامش الحرية الضئيل المتاح لها والخوف من حرمانها أموال الإشهار التي تعتاش بها وتدفع منها الكثير من تكاليفها وأجور صحافييها وعمالها، وربما حتى تلكؤ النخبة وأساتذة الجامعة والمثقفين في التعاون معها أثر في المستوى المرجو منها".

قبل هذه التجارب ظلّ حظ منطقة الجنوب لسنوات عدة، وخاصة ولاياته الحدودية مع النيجر ومالي وموريتانيا، كإيليزي وتمنراست وأدرار وتندوف، ضئيلاً من حيث التغطية الإعلامية، إلى حين إنشاء إذاعات محلية، فيما ظلت تغطية التلفزيون الرسمي ولاحقاً القنوات المستقلة التي تمركزت في العاصمة الجزائرية محدودة لأسباب عدة، أهمها شساعة المنطقة وكلفة التغطية وظروف تقنية كانت تتعلق أساساً بضعف التغطية الهاتفية والإنترنت.

المساهمون