رسم الإعلام الألماني في الأشهر الماضية، صورة أحادية الجانب للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتحدثت في أغلبها بشكل مؤيد لإسرائيل أو من دون تقديم الصورة الكاملة. ويبدو عامة أن اللغة الإعلامية والتوجه الصحافي في ألمانيا يتبعان لغة سياسييهما مع انعدام صوت الانتقاد، غير أن هذا التوجه بدأ بالتحول الخجول.
وظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بـ"تاغز شبيغل"، وهي إحدى أكبر وسائل الإعلام في ألمانيا، لغة "جديدة" في الإعلام الألماني، تحاول أن تروي الجانب الفلسطيني وحجم الدمار الذي سبّبه الاحتلال الإسرائيلي في غزة، فيما يرجح خبراء أنّ هذا التحول ينعكس فقط عبر المنصات الاجتماعية، لكون جمهورها يتضمن فئة الشباب، مع استمرار "ندرته" عبر المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام التقليدية.
وكانت قناة ZDF الألمانية الرسمية قد أعدت، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تقريراً قابلت فيه عدداً من الناشطين الفلسطينيين المقيمين في برلين الذين عبّروا عن دعمهم لغزّة، وانتقدوا ما يعرضه الإعلام الرسمي الألماني بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
انقياد للرواية الإسرائيلية
سارع الإعلام الألماني، بعيد تصريحات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، حول العثور على فتحة نفق وبعض الأسلحة في مستشفى الشفاء، إلى نشر استنتاجات متسرعة ومن دون تدقيق أو انتقاد، واقتبس التصريحات كإثبات لا يحتاج إلى مراجعة ومعالجة. وخلال الأيام التالية للتصريح عجّت المواقع الألمانية بعناوين: "لدينا الدليل: إسرائيل تعثر على مركز قيادة حماس في مستشفى الشفاء"، و"الجيش الإسرائيلي يعثر على مركز عمليات حماس في مستشفى الشفاء"، وذلك عكس ما قامت به وسائل إعلام دولية، اعتبرت التصريحات تتناقض مع ما وعد به جيش الاحتلال من وجود مركز قيادة كبير تحت المستشفى، وكتبت صحيفة ذا غارديان في عنوانها الرئيسي: "أدلة الجيش الإسرائيلي لا تكفي لتحديد مستشفى الشفاء كمقر لحماس".
وفي 11 أكتوبر/ تشرين الأول، أرسلت هيئة الإذاعة الألمانية ARD مذكرة داخلية إلى جميع الموظفين والصحافيين، لتوجيههم حول كيفية تغطية الحرب الإسرائيلية على غزة.
المذكرة التي احتوت على 44 صفحة، أوردت مصطلحات يمنع على الصحافيين استخدامها، مثل "التصعيد" أو "دوامة العنف"، وتجنب استخدام مصطلح "مقاتلو حماس"، واستبداله بـ"الإسلاميين المتشددين"، و"الفلسطينيين المسلحين"، و"المليشيا الإرهابية".
واعتاد الإعلام الألماني منحَ الصوت الإسرائيلي مساحة واسعة، مقابل التضييق على الصوت الفلسطيني، أو إدراجه فقط ضمن انتقاده، كما حدث في لقاء مع السفير الفلسطيني في ألمانيا، ليث عرفة، إذ جرت عنونة لقائه في مقابلة مع ZDF: "السفير الفلسطيني... لا إدانة لحماس؟".
فيما سارع الإعلام الألماني، منذ بدء العدوان، إلى نقل الأخبار المزورة وغير الصحيحة، وتكرارها من دون تدقيق، من بينها ما كتبته صحيفة تاغز شبيغل، وعنون بـ"صور تثبت فظائع حماس ضد الأطفال. وفي إحدى الهجمات، قيل إن ما يصل إلى 40 رضيعاً قد قتلوا"، و"حماس تستهدف على ما يبدو الأطفال في كيبوتس كفار عزة"، والذي أثبت لاحقًا عدم صحته.
ويعزز قصور الإعلام الألماني في نقل الصورة من الحرب هو أنه لم يبقَ لدى معظم وسائل الإعلام الألمانية مراسلون داخل غزة؛ وبدلاً من ذلك، ينقلون الأحداث في غزة والضفة الغربية من مكاتبهم في تل أبيب، وتحت أعين الرقابة الإسرائيلية.
وكتب الصحافي تيسو لا ماركا في مقال له، نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني، ينتقد "انحياز الإعلام الألماني للرواية الإسرائيلية"، قائلاً إن الإعلام الألماني غرق في دوامة التسرع وغياب الانتقاد، وأشار إلى إن هذا يعود إلى أن التقارير الألمانية تركز على تبرير الأعمال العسكرية الإسرائيلية، وبدرجة أقل على تلك التي تظهر معاناة الأهالي والانتهاكات المحتملة للقانون الإنساني والدولي، وبالتالي فإن المصادر والتصريحات الرسمية الإسرائيلية هي المصدر الأساسي للأخبار، لافتاً إلى أنه كثيراً ما يُستشهد بتصريحات "حماس" باعتبارها بياناً مضاداً، وكوسيلة لإظهار "عدم الانحياز"، من دون إفراد مساحة للمنظمات المحلية الفلسطينية المستقلة. وأكد أنه بعكس وسائل الإعلام الدولية الناطقة بالإنكليزية، فإن الإعلام الألماني ينقل التصريحات السياسية الإسرائيلية من دون معالجة وانتقاد، "حتى عندما تكون التناقضات واضحة".
وأضاف أن المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين لا يشكلون المصدر الرئيسي للأخبار فحسب، بل يجري اقتباسهم بشكل انتقائي أيضاً، مشيراً إلى أن التصريحات الإسرائيلية التي تتناقض مع المزاعم بأن إسرائيل تحافظ على سلامة المدنيين، وأن "حماس" وحدها هي المسؤولة عن البؤس الإنساني، "يجري استبعادها".
بين الإعلام الألماني وحساسية الدولة
شهد حساب "تاغز شبيغل" على "إنستغرام" تحولًا واضحًا في لهجته منتصف ديسمبر، وتضمن منشورات بعناوين مثل "أربعة من كل عشرة من القتلى هم من الأطفال"، و"الكارثة الإنسانية في غزة تفوق كل الخيال"، وهو ما اعتبره الصحافي الألماني شاف مكاي محاولة "لإضفاء الطابع الإنساني على ضحايا الصراع الفلسطينيين وتعكس الدعم لنضالهم".
غير أن هذه العناوين في وسائل التواصل الاجتماعي لـ"تاغز شبيغل" تتناقض مع العناوين الرئيسية على الصفحة الرئيسية لها، حيث تبرر العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، ويعزو مكاي السبب في هذا الاختلاف إلى أن كل وسيلة إعلامية مرتبطة بعمر القراء، إذ إن نصف مستخدمي "إنستغرام" في ألمانيا تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ويدفع انتشار روايات المدنيين الفلسطينيين بشكل موسع، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، "تاغز شبيغل" إلى محاولة "التنسيق" بين ما يتابعه الجيل الشاب، وبين توفير المحتوى المؤيد لإسرائيل عبر موقعها، وذلك في رغبة منها للحفاظ على الوضع الراهن، وتجنب اتهامات "معاداة السامية".
وفي الوقت نفسه، بدأت تظهر عبر وسائل الإعلام الألمانية أصوات تدعو إلى "وقف إطلاق النار"، وذلك تزامناً مع تصريحات السياسيين الألمانيين، إذ دعت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى وقف إطلاق النار في غزة لأسباب سياسية في نوفمبر، فيما شكلت المقابلة التي أجراها ZDF مع الكاتبة اليهودية الألمانية ديبورا فيدمان، في ديسمبر الماضي، تحولًا آخر، بعد أن أكدت أنه "لا يجوز استخدام أحداث السابع من أكتوبر لتبرير الهجوم المستمر على المدنيين الفلسطينيين".
كذلك تضمن برنامج "تاغيز شاو" عبر هيئة الإذاعة الألمانية، الذي يشاهده ما يقرب 10 ملايين شخص في الليلة الواحدة، انتقاداً للتعامل الإسرائيلي مع الإعلام، وذلك بعد احتجاز جنود إسرائيليين لمراسلي القناة وتهديدهم.
ووصف موقع الهيئة الحدث بأنه "هجوم واضح على حرية الصحافة"، وبهذا تمكن البرنامج من زرع "عدم الثقة تجاه المعلومات المنقولة عبر الجيش الإسرائيلي ودوافع إسرائيل بين المشاهدين"، بحسب شاف مكاي.
ويضع هذا التحول الطفيف الإعلام الألماني في مكان "هشّ وحساس"، فبينما يعاني من معضلة تغطية الأخبار بموضوعية، فإنه يحاول جاهدًا عدم المساس بإسرائيل ومن دون الاعتداء على حساسية الدولة الألمانية المؤيدة للاحتلال.
وقال مكاي إن رغم هذا "الصراع على الخط الفاصل"، إلا أن الانتقادات تظل بعيدة كل البعد عن تقارير بعض وسائل الإعلام الدولية التي تشكك في ادعاءات جيش الاحتلال الإسرائيلي، مضيفاً أن الحذر المحيط بالقصص التي تنعكس سلباً على إسرائيل لا تترك لوسائل الإعلام سوى القليل من الأدوات اللازمة لتمثيل الحقيقة.