لا ينفك رائد الدخيل عن تكرار سماع أنشودة "أقمار نابلس". فما إن تنتهي حتى يكرر سماعها من جديد، كيف لا! وهي تأتي على ذكر مناقب ابنه الشهيد محمد الدخيل، ورفيقيه أدهم مبروكة الملقب بالشيشاني وأشرف المبسلط، إذْ ارتقوا في عملية اغتيال نفذتها وحدة اليمّام الإسرائيلية في الثامن من فبراير/ شباط الماضي في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية.
تعزيز الحالة الثورية
الدخيل الذي يعمل سائق تكسي، تكاد تدمع عيناه في كل مرة ينطق فيها المنشد اسم ابنه، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "لقد اختار طريقه، والحمد لله أنه شهيد، وهذا مصدر فخري، الذي يتعاظم عندما استمع إلى الأناشيد التي تذكره ورفاقه، عندما أمر من أمام مجموعة شبان يستمعون للنشيد من هواتفهم المحمولة، عندما تصدح الكلمات في الأسواق وداخل المقاهي والميادين". كانت مفاجأة سارة من أصدقاء ابنه الذين تواصلوا مع إحدى الفرق الفنية وطلبوا نشيدأ عن الشهداء الثلاثة الذين اهتزت فلسطين على جريمة اغتيالهم بأكثر من ثمانين رصاصة أطلقت على السيارة التي كانوا يستقلونها، "هذه لمسة وفاء لا تقدر بثمن"، يؤكد الدخيل. ويرد ذكرهم في نشيد "أقمار نابلس"، وهو من أداء "فريق أجناد" للفن الإسلامي في لبنان، لكن الكلمات للكاتبة والشاعرة الفلسطينية تسنيم عبد القادر، التي تقطن قرية عوريف جنوب مدينة نابلس.
تقول عبد القادر لـ"العربي الجديد": "إن النشيد يعزز من الحالة الثورية التي نعيشها، ويحفظ مكانة الشهداء والمقاومين ويجعل ذكرهم يتردد على ألسنة الجماهير، وهي تحفز الهمم عند الشباب ليسيروا على هذا الدرب، قد يتساوى تأثير النشيد مع الفعل ذاته، وأحياناً قد يتفوق عليه". ويؤكد محمود عياد الملقب بـ"المرابط" من مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية، وهو كاتب أناشيد ثورية معروف، لـ"العربي الجديد"، أن هذه الأناشيد نجحت بطريقة مبهرة بحشد مشاعر الناس وتوجيهها بالاتجاه الصحيح، ما سهل إيجاد حاضنة وطنية للعمل البطولي في كافة المناطق وخاصة نابلس وجنين، ويقول: "النشيد أعاد توجيه البوصلة للاتجاه الصحيح، وأثر في الوعي العام بشكل مركّز وملحوظ".
كلمات تحاكي المشاعر
تعتمد الكاتبة عبد القادر على المعجم اللغوي في اختيار الكلمات المناسبة للحدث، وتقول: "أبحث عن كل كلمة تلامس الوجدان والشعور الوطني العام، وهنا أيضاً أستعين بمفردات خاصة عن كل شهيد، أحصل عليها من عائلته أو رفاقه، مثل لقبه وكنيته وصفاته، وسبب وصوله إلى هذه اللحظة الحاسمة التي أنهت وجوده الدنيوي وزينت في عينه حب الشهادة".
تتخير الكاتبة عبد القادر الكلمات التي تثير الشوق لذوي الشهيد ومحبيه وفخرهم بما صنع وتقوي من عزيمتهم وصبرهم وصمودهم. وتضرب عبد القادر مثالاً على ذلك بالشهيد الدخيل، حيث طلب أصحابه منها تأليف نشيد عنه وعن من كان معه حين الاستشهاد، فعلمت منهم أنه أسير محرر من سجون الاحتلال ومقاوم منذ الصغر، وكان معروفاً بقدرته على تصنيع العبوات المحلية التي يستهدف بها أبراج الاحتلال المنصوبة على قمة جبل جرزيم بنابلس. وبعد اغتياله تحول إلى أيقونة للجيل الصاعد، فوظفت ذلك كله في النشيد، فيما يرد فيها كلمات تعبر عن مدى الحزن الذي أصاب مدينة نابلس جراء هذه الجريمة.
يؤكد الناقد الفني أسامة ملحس في حديث لـ"العربي الجديد" أن أسلوب الغناء والإيقاع السريع حبب الجمهور بالأناشيد الجديدة، فترى أن أناساً غير منخرطين في الحالة قد تأثروا بها، وانجذبوا من خلالها لبطولات الشهداء، حتى أنك تسمعه يدوي في صالات الأفراح وحفلات الزفاف. ويوضح ملحس أن هذه الثورة الإنشادية رفعت من الذوق العام، ومن الوعي الوطني الذي يحاربه البعض، وأكد أن الشعب الفلسطيني مصمم على الحرية والخلاص من المحتل. ويطالب الناقد الفني بضرورة إيلاء هذه الحالة "الفنية - الثورية" الاهتمام الكافي، وأن يكون هناك احتضان وتقدير ودعم ورعاية من أعلى المستويات لها، فيما يشدد على أن التحدي الأبرز هو الحرب التي تشنها منصات التواصل الاجتماعي بشكل عام على المضمون والمحتوى الفلسطيني المقاوم، ومن ذلك الأناشيد بإغلاق صفحات المنشدين وشركات الإنتاج والناشطين الذين يتداولونها.
"عرين الأسود"... نشيد وطني
كاتب معظم الأغاني المتداولة حديثاً، والتي تتغنى بالشهداء ومجموعة "عرين الأسود" في نابلس و"كتيبة" جنين، محمود عياد "المرابط"، باتت أشهر أغانيه "عرين الأسود" التي تعد بمثابة السلام الوطني الجديد لنابلس ومن ثم لفلسطين، كما يصفه كثيرون. فالنشيد يأتي على ذكر اسم الشهداء عبد الرحمن صبح ومحمد العزيزي وإبراهيم النابلسي، والجريح محمد حرز الله الذي ارتقى شهيداً قبل فترة وجيزة، كما تمجد فيه حارة الياسمينة معقل العرين. ومما جاء فيها: "تشهد علينا حارة الياسمنية، ولما بالدم كتبنا وحفرنا أسامينا، بيرجع جنازة يلي بيجينا، كل مشط رصاص حكاية وحكاية لحاله"، وهي أغنية باتت الأغنية التي تشغل في الميادين العامة وفي المركبات. ويقول عياد لـ"العربي الجديد": "النشيد الوطني كان حاضرا دائماً في تاريخ الشعب الفلسطيني حتى قبل الاحتلال، ورافق الثورة الفلسطينية منذ بدايتها، وكان النشيد بمثابة التذكير المستمر لكل ثائر بأهمية نضاله في سبيل حريته وحرية شعبه، وأهمية الفعل الثوري لهذا الثائر في وجه العدوان".
منذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة، كما يقول عياد، "لم تفارقنا الكلمات والألحان والأناشيد، وليس بعيد عنا النشيد الذي انتشر في الفترة الأخيرة للاجئة المسنة حليمة الكسواني التي تقطن في مخيمات الأردن تحت عنوان (شدوا بعضكم يا أهل فلسطين)، وهو الذي حرّك مشاعر ملايين الفلسطينيين والعرب لبساطة كلماته ووضوح الغاية من معانيه العظيمة".
ويرى المرابط أن النشيد توثيقٌ لنضال ومقاومة الشعب الفلسطيني وأحراره ورفع مكانة وقيمة من يسير على هذا الدرب، فتأتي هذه الأناشيد لتخليد ذكره، كما يرى أن النشيد يمكنه أن يجمع كل عشاق المقاومة ويحفزهم في ظل صعوبة أن تجمع الناس في احتفال تمجد فيه هذه البطولات والتضحيات. ويقول المرابط: "نحن اليوم قادرون على جمعهم في نشيد، يشاركهم بطولاتهم، جنائز أبطالهم، أفراحهم، وتفاصيل يومهم المليء بالمعاناة في ظل الاحتلال، يكفيني الفيديو الذي يظهر فيه الشهيد سائد الكوني وهو ينشد بحماسة (نشيد عرين الأسود)".
ومن بين الأناشيد الثورية لفرقة العاشقين التي تتحدث عن بطولات الشهيدين وديع الحوح وتامر الكيلاني من أبرز قادة "عرين الأسود"، من بين ما جاء فيها "جفرا وهي يا الربع يا رفيق شيلونا على كتافكم سبع وغمضت عيونا، جفرا وطل المزيون حامل المرتينا، ميل من باب الساحة لصوب الياسمينة، كيلاني يا مفخرة بأسود العرين"، ثم تتابع "جفرا ويا ابن البلد تبكيك فلسطيني، هي يا وديع الأسد قائد العرين، ماشي وايديه ع الزناد وتشهد الياسمينة".
"كتيبة جنين".. حب الشهادة
ولجنين وكتائبها المقاومة نصيب وافر من الأناشيد التي تمجدها وتعلي من شأنها وشأن شهدائها، فكانت أنشودة "عشق المخيم" التي استطاع المنشد حمزة أبو قينص من غزة، أن يجمع المجد من أطرافه كافة، لكنه ركز على الإشادة بدور الشهيد المقاوم الطبيب المشتبك عبد الله أبو التين، الذي ارتقى في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، خلال اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. ومما جاء في الأنشودة: "عشق المخيم وزقاقه بالدم يفدي والله رفاقه.. يا مصعب يا خوي فراقه عبد الله أبو تين".