شكّل الرقص في السينما الهندية عنصراً فنياً مُهمّاً، يُميّز طبيعتها ومُتخيّلها عن أنواعٍ سينمائية أخرى، لكن الأغنية تظلّ أحد الأعمدة والمُرتكزات الأساسية، التي تُشيَّد عليها تلك السينما، قديماً وحديثاً. فمنذ تشكّل بواكيرها الأولى، حرص المُخرج الهندي على أن تكون ذات قيمةٍ جمالية مُضافة إلى النسيج الفني للصورة. هذا عائدٌ أساساً إلى خصوصيات الأغنية في الهند، إذ تكتسح مناحي الحياة اليوميّة، كمراسيم تأبين وأعراسٍ وحفلاتٍ ومظاهر تعبّدٍ. أي إنّها خاضعة في ماهيتها لنسقٍ اجتماعيّ، يُساهم في ابتداعها وبلورتها في نظام عادات وتقاليد ضاربٍ في القدم.
فاقت شهرة بعض الأغاني الهندية شهرة أفلامها السينمائية
ولأنّ الأغنية نتاجُ مُتخيّلٍ تاريخيّ واجتماعيّ لمُجتمعات مُركّبة كهذه، فإن المُخرج حرص، في مُنجزه السينمائيّ، على أن تكون الأغنية ـ من دون غيرها من المُكوّنات الفنية الأخرى ـ وسيلة تعبيرٍ عن وجدانه لحظة الفرح والألم. وتفاوت التعابير الجمالية وصُوَرِها في الأغاني، بين رومانسية عذرية وتراجيدية مأسوية، حقّق لها، منذ ستينيات القرن الـ20، مكانة مُهمّة في آسيا. ومع بداية سبعينيات القرن نفسه، بزغ نجمها بشكلٍ كاسحٍ، فغزت بلدان العالم العربيّ، بأطيافه وألوانه. مفاهيم القومية والوحدة والعروبة والماركسية، في السينما العربيّة آنذاك، لم تمنع الأغنية الهندية من تحقيق تفاعلٍ مع شعوب تلك السينما، لارتباك المرحلة وحساسيتها إزاء السياسة والاجتماع، فأضحت الأغاني هوية فنية جديدة في مخيال المُشاهد العربي. مكانة الأغنية الهندية غذّتها وجوه سينمائية جديدة اشتهرت بأغانيها آنذاك، كأميتاب باتشان وريشي كابور وشاشي كابور وريخا وسريديفي، وغيرهم. فمنذ الطفرة التكنولوجية، التي اجتاحت العالم مع بداية الألفية الثالثة، تطوّرت الأغنية الهندية بشكل كبيرٍ، حتّى غدت ندّاً لكل الأنواع السينمائية الأخرى. هذا النجاح أتاح لها استقراراً تجارياً، نأت فيه ضمنياً عن أفلامها، وأصبحت مُستقلّة تقنياً وجمالياً عن الفيلم، خاصّة أنّ المُخرج الهندي بات يُخصّص لها وقتاً كافياً للإبداع الفني والتوليف الجمالي، اللذين يرتكزان على تاريخ الأغنية الهندية وخصوصياتها وتراثها، مع إمكانية تطويعها مع قوالب وإيقاعات غربية.
لكنّ ذلك لم يتوقّف عند هذا الحدّ. فهناك مخرجون عملوا على إعادة كتابة جديدة لأغانيهم الهندية باللغة العربية، تأليفاً وصورةً، إيماناً منهم بأهميّة مُشاهد الشرق الأوسط في تشكيل نحو نصف جمهور السينما الهندية في العالم. هذه الأغاني، الهندية العربيّة، حقّقت نجاحاً لافتاً للانتباه، لأنّ الجمهور العربيّ شاهد الأفلام وأغانيها في نُسخها الهندية الأصلية، كأغنية فيلم DHOOM (تمثيل أمير خان وكاترينا كيف وأبهيشيك باتشان)، وأغنيتي فيلمي FAN وRAEES، للمُغني المغربي عبد الفتاح الجريني (تمثيل شاروخان)، وأغنية فيلم TUBELIGHT للدوزي (تمثيل سلمان خان).
رغم الاستسهال المُبتذل، الذي طبعها في نُسخها المغربيّة على مستوى التأليف، حقّقت تلك الأغاني نجاحاً كبيراً بالنسبة إلى عدد مُستمعيها. فهي بسيطة، لا يكتنفها أيّ تجديدٍ يُذكر، كما بدا فيها المُغني كأنّه يستغل صورة نجم بوليوود، واللعب على أوتار السينما الهندية، للمكانة التي تحظى بها هذه السينما من دون غيرها في وجدان الجمهور المغربي.
منذ ستينيات القرن الـ20، لا تعرف الجماهير العربيّة شيئاً عن المُؤلّف الحقيقي للأغاني الهندية، بينما يشتهر ممثلون بسبب نجاح أغاني أفلامهم، فتظّل هذه الأسماء تلهث في الخفاء، مُحاولة كسب احترام منتجين ومخرجين ورضاهم، فهم غير مشغولين بالشهرة، مقارنةً بنجوم السينما. وهذا عائدٌ أساساً إلى مفهوم الصورة السينمائية وطابعها النجومي. في الأعوام الأخيرة، بعد "الاستقلال" الضمني الذي حقّقته بعض الأغاني، فاقت شهرة تلك الأغاني شهرة أفلامها السينمائية، ما دفع مؤسّسات فنية مسؤولة عن تنظيم سهرات جوائز السينما الهندية، كـ"زي سيني" المشهورة، إلى تخصيص جوائز للمؤلّف الموسيقيّ وللمُغنيّ معاً، التي لا تقلّ أهميّة عن تلك الممنوحة لممثل أو مخرج. هذا ساهم في تعزيز صناعة التأليف الغنائي في السينما الهندية وازدهارها، وفي بروز أصواتٍ جديدة شابّة غير معروفة، حقّقت بدورها نجاحاً لافتاً للانتباه، بعد أنْ غدت أسماءً مهمّة في الهند.
من أهمّ الأغاني السينمائية، التي عرفت أفلامها نجاحاً، لا تزال موسيقى فيلم Ae Dil Hai Mushkil، لمخرجه ومنتجه ومؤلّفه كاران جوهر (2016)، في طليعة الأغاني البوليوودية، إذ تجاوزت إيراداتها وجوائزها أضعاف إيرادات فيلمٍ حصل على أكثر من ملياري دولار أميركي عالمياً، بميزانية تبلغ 700 مليون دولار أميركي، ولا سيما أغنيتا Ae Dil Hai Mushkil (الأغنية الرئيسية) وChanna Mereya، بصوت المغنّي الشاب أريجيت سينغ (1987)، رغم آلاف الأغاني السينمائية، المُنتجة سنوياً في الهند. لا تزال الأغنيتان هما الأكثر استماعاً ومُشاهدة، مقابل الجماليّات الحكائية والدرامية المألوفة في أعمال جوهر، المنشغل دائماً بوضع متانة الصداقة وفتنتها أمام اختبار الحبّ. أعماله تأخذ دائماً طابعاً مُتخيّلاً، فهو غير معنيّ جمالياً بالواقع الهندي، سياسةً واجتماعاً. بالإضافة إلى حرصه الكبير على العمل مع ممثلين كبار، أمثال شاروخان وآيشورايا راي ورانبير كابور وأنوشكا شارما، وغيرهم. لكنّ جوائز أغاني الفيلم وإيراداته أكثر ممّا حصل عليها كاران جوهر كمُخرجٍ، بسبب هذا الاستقلال الجمالي، الذي أضحى علامة مُميّزة في السينما الهندية الجديدة، وشركاتها الإنتاجية.