تعيش الأغنية الشبابية في المغرب حالة من الإرباك، لم تعرفه في السابق. ففي السنوات الأخيرة، حقّقت بعض التجارب الواعدة تجارياً، أكثر ممّا يُمكن أنْ تحلم به أيّ أغنيةٍ "مُلتزمة" في تاريخ الأغنية المغربيّة. والسبب يعود أساساً إلى سهولة ذيوع هذه الأغاني وقُدرتها على خلق أقنومٍ جماليّ جديدٍ يقوم على الاستهلاك ويُشيّد على الترفيه. إذ لا تكاد تنتهي أغنية وترسم مَلامحها الجماليّة في ذهن المُستمع، حتّى تنطلق الأخرى، فتخفي الأولى التي قبلها، وسرعان ما نجد أنفسنا أمام حلقة غنائية مُفرغةٍ يتكرّر فيها التنميط إلى ما لانهاية.
ثمّة تفاوتاتٌ جماليّة كبيرة بين التجارب الغنائية التي ظهرت منذ بداية الألفية الثالثة وبين الأخرى الشبابية التي تشغل الراهن الفنّي المغربيّ الآن. فالموجة الأولى ظلّت ذات علاقة بتحوّلات المُجتمع وقلقه، إذ سيتراجع غناء "الراي"، مُفسحاً المجال للأغنية الشبابية الترفيهية بما فيها "الراب"، لأنّ طبيعة المجتمع المغربيّ في ذلك الإبان، لم يعُد في حاجة إلى رومانسيات سعيدة فكري والشاب الدوزي وميمون الوجدي والشابة الزهوانية، فهذه الأسماء الغنائية المُذهلة، رغم ما لعبته من دورٍ قويّ داخل الأغنية المَغاربيّة، بدأ وهجُها يخفت وصورتها تتراجع أمام سُلطة "الراب" وخطابه المُباشر المُعرّي لميثولوجيات السُلطة القمعية.
لكنّ هذا اللون الغنائي، سيجد صعوبة بالغة في فرض نفسه، أمام الحواجز الكثيرة والسياجات المنيعة، التي فرضتها السُلطة لضرب الحصار على أغانيه وموسيقاه. وشيئاً فشيئاً انتقلنا من جودة الأغاني وحساسيتها وحرارتها في تعرية أوهام السُلطة السياسيّة، إلى تنميطٍ مُضاعفٍ ومدحٍ مُفرطٍ للسُلطة القائمة. هكذا بدأت عملية تدجين فناني "الراب" واستدراجهم بسرعةٍ صوب المُؤسّسات الرسميّة التقليدية، حتّى أضحى "الراب" فناً ترفيهياً وعبارة عن استسهالٍ فنّي، ثمّ فيما بعد كسلاحٍ تتوسّله السُلطة في وجه الأغنية المُلتزمة.
والحقيقة أنّ المؤسّسات الفنّية الرسميّة، قد لعبت دوراً سيئاً في الترويج لهذه الأغاني الشبابية الترفيهية داخل أمسياتها ومهرجاناتها وسهراتها، لأنّها جعلتها أشبه بـ "التخدير" لذاكرة الناس وبسلاحٍ فتّاك يُدمّر الذوق الجمالي العام ويجعله خاضعاً لمرض السوق ونمطيّة العرض والطلب. كل شيء كان مُخطّطاً له من طرف الدولة، بما فيه الحصار الكبير على الأغنية التراثية، لأنّ هاجس السُلطة يكمن في فرض الابتذال كبديلٍ عن الفنّ وجعل الترفيه علامة وجوديّة وهويّة جماليّة للأغنية الشبابية المعاصرة. ولأنّ هذه التجارب الشبابية تفتقر إلى أبسط مُقوّمات المُتعة الجماليّة، فإنّها غدت مثل وجبات الطعام السريعة التي يلتهمُها الناس بسرعة وتُنسى إلى الأبد، كأنّها لم تشغل مَسامعنا يوماً. هذا الأمر، بقدر ما يُمثّل علامة تجارية قويّة بالنسبة للفنّان ومُؤسّسات الإنتاج، فإنّه يبقى عاملاً سلبياً بالنسبة لذاكرة الأغنية المغربيّة، في وقتٍ تجتاح فيه الجغرافية الغنائية العربيّة العديد من الألبومات المُميّزة بأصواتها المُذهلة والمُتفرّدة، مُؤكّدة صورتها الطباقية بين المجتمع ونموذج الأغنية التي تُنتج داخله.
في ألبومات سعد لمجرّد (المتهم بأكثر من جريمة اغتصاب وتحرش في فرنسا) وحاتم عمّور ودنيا بطمة، وهند الزيادي وسلمى رشيد وزهير البهاوي، يتحرّر الفعل الغنائي من بُعده المُلتزم بقضايا الناس ومآزقهم وأهوالهم داخل اجتماعٍ مغربيّ مُنهدّ ومُتصدّع. فتتحوّل الأغنية إلى سيركٍ من السراب، يخترقه تأليفٌ سطحيّ مُفبرك يستند إلى الموسيقى الإلكترونية كخلاصٍ جمالي، من دون أنْ يُفكّر المُؤلّف في إيجاد مُنعرجاتٍ جماليّة، تجعل الأغنية تُقيم علاقة قويّة مع المجتمع من خلال التعبير عن جُرحه وأرقه. لذلك فإنّ عملية التجريب الموسيقي في التجربة الشبابية، بقدر ما تُشكّل علامة عن تمثّل مفهوم الحداثة داخل الفنّ المغربيّ، فإنّها تبدو من جهةٍ أخرى، ترفاً فنياً بالنسبة لأغانٍ لا تتوفّر على أدنى شروط الجودة.
والحقيقة أنّ هذا الأمر، قد ساهم ضمنياً في بروز الكثير من الأسماء، إذ يصعب على الناقد الفنّي اليوم العثور على الصوت الجيّد الذي يُعوّل عليه، لا سيما أنّ أغلبهم مُهمّشون من طرف الجهات الرسميّة، رغم ما يمتلكونه من سُلطةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي. إلاّ أنّ ما يجعل هذه التجارب الغنائية الشبابية معطوبة الأفق، أنّها لا تطمح إلى أن تغدو أغنية "أثر" ومرجعاً في تاريخ الأغنية المغربيّة، بل يظلّ همّها الوحيد مُتمركزاً على الترفيه والاحتفاء بمفهوم اللحظة ومُضاعفة الأرباح والجري وراء شركات الإنتاج، وما تطمح إلى تحقيقه من نجاحاتٍ لا فنّية. فهذه التجارب الغنائية، لا تقوى على تجاوز الجغرافية المغربيّة واختراق نظيرتها العربيّة، ما يُفسّر لجوء الكثير من هذه التجارب إلى الغناء بلهجاتٍ أخرى، كمُحاولةٍ لاستقطاب جمهورٍ أكبر خارج المغرب. هذا ويبقى للتاريخ الفنّي نظامه الصارم، فهو يحتفظ بالأغاني التي تترك أثراً في ذائقة الناس ونفوسهم واجتماعهم، لا الأغاني الترفيهية المُدجّجة بالموسيقى الإلكترونية والمهرجانات الرسميّة التنميطية.