كان لانتشار وتفاقم فيروس كورونا داخل المغرب منذ شهورٍ خلت، تأثيرٌ بالغ على صعيد الإنتاج الموسيقي المغربي، إذْ إنّ هذا الكيان الفني الذي تعوّد كلّ سنة على إنتاج العشرات من الأغاني والألبومات والفيديوكليبات قد أصابه شرخٌ وعطبٌ بسبب شبح كورونا، الذي جعل مؤسّسات فنية داخل المغرب تتوقّف وتُصاب بالعجز تجاه هذا الضيف الغريب. وبات كورونا يُهدّد مصائر الناس أمام محدودية العلم. إذْ إنّ توقفاً كهذا جعل هذه المؤسّسات الإنتاجية والأصوات الغنائية المغربيّة تدخل في صمتٍ رهيب، مُكتفية باستعادة صور وأغانٍ نوستالجية قديمة على صفحاتها الرسمية داخل وسائل التواصل الاجتماعي، بطريقة بدت فيها الساحة الموسيقية وكأنّها تدخل غياهب النسيان.
ولجأت مؤسّسات عربية خلال فترة الحجر إلى توفير أرشيفٍ غنائيّ قديم، يجعل المُستمع ينسج وشائج علاقة جديدة مع هذا الموروث الفني العربي واستعادة أعلامه وأقطابه والدور الذي لعبوه في تهذيب الذوق الوجداني للشعوب العربيّة إبان القرن العشرين، مع العلم أنّ هذه المحاولات سرعان ما خفت وهجُها لتعود إلى صمتها الأبدي، بسبب مرارة الواقع وعنفه الذي عطّل لمدة شهورٍ طويلةٍ شروط الإبداع الحقيقية وجماليّات الفنّ أمام رهاب موتٍ يتجوّل بين ممرات وأزقة بيتك.
ومع ذلك فثمة مبدعون حقيقيون تصدوا لهذا الفيروس الغريب ليجعلوا من لحظة الحجر محطة بارزة في تاريخ إنتاجهم الغنائي من خلال اجتراح أغانٍ مُتواضعة على مستوى التقنية والتأليف. لكنّها مع ذلك تظلّ مهمّة على مستوى الجرأة والإبداع في خضم قساوة الواقع وفداحته، أشير هنا على سبيل المثال إلى أغنية "كورونا" (2020)، للفنّان نعمان لحلو، رغم بساطتها وبُعدها التوعوي الصرف، فهي على الأقل تُشكّل لحظة جريئة للتأليف والتوليف الموسيقي داخل يوميّات كورونا، ولأنّها كانت الأغنية الأولى عن كورونا عملت محطات الراديو على اختلاف ألوانها وتردّداتها في جعلها أشبه بسرديّة موسيقية يومية أو ترنيمة يستمع إليها المرء قبل النوم، مع أنّها لا تتجاوز 3 دقائق.
لكن أغنية "مدى بيّا" (2020)، للمُغنية الشابة جيهان بوكرين، فيها بعض من الإبداع المُضمر على مستوى جماليّات التأليف ورهافة لغتها وقدرتها على الخروج من التعبير المباشر الذي قد يجعل من اللحظة التوثيقية داخل أغنيتها المُنفردة تبدو تقريرية وتوعوية خالية من رهافة الإحساس الشعري وجاذبية التناغم الموسيق الذي جعلته جيهان بوكرين ينهل من أنواعٍ وقوالب موسيقية متنوّعة، بين موسيقى الروك وموسيقي الـ"بوسا نوفا" ذات الإيقاع الشعبي البرازيلي. ولأنّ بوكرين تنتمي إلى جيلٍ جديدٍ جعل من الفنون المعاصرة مُنطلقاً للتخييل والتأليف، فقد عَمِلت على جعل فيديو كليب أغنيتها أشبه بمسرحية أو كرنفالٍ فنيّ، يجمع العديد من الوجوه الفنية المغربيّة التي تظهر داخل الفيديو كليب وهم يرقصون ويغنون نشداناً للحياة ونكاية في يوميات الحجر القاهرة.
وحتى يتم إنقاذ الإنتاج الموسيقى المغربي، عَمِلَ قطاع الفنون بوزارة الثقافة على تخصيص دعمٍ مادي لجملة من الفنانين والمغنين كتعويض عن أضرار لحقت بهم منذ أشهر بسبب كورونا، رغم أنّ هذا الدعم تسبب في جدل كبير وحساسيات مُتباينة بين المغنين والمغنيات على خلفية منحه لأسماء غير معروفة لدى الجمهور المغربي وعدم قدرة هذه الأسماء على الاستيطان في وجدان المُستمع المغربي وخلق مشروعٍ غنائيّ وطنيّ، أمام دعمٍ يبدو "كبيراً"، وخاصّة أنّ هذا الجدل لم يبقَ حبيس الفنانين، بقدر ما تسرّب إلى نفوس الأوساط الشعبيّة المغربيّة، والتي عملت على توجيه نقدٍ لاذعٍ إلى هذه الأسماء الفنية التي تقبل بمثل هذا الدعم "السمين" لإنتاج أغنية تافهة، أمام فقرٍ مُدقعٍ بات يُهدّد شرائح كبيرة من المجتمع المغربي.
كل ذلك في مقابل صحافة ونقاد يُنادون بضرورة هذا الدعم وأهميته في تدوير عجلة الإنتاج الموسيقي من جديد مع ضرورة المُراهنة على الإبداع الجيد والفعال، بعيداً عن أغانٍ ترفيهية واستهلاكية أضحت بمثابة شعار للكثير من هذه الأسماء داخل المغرب. لذلك، فإنّ حرص وتأكيد النقاد على الحق في الفنّ، قد أعاد معه ضمنياً سؤال مستقبل الغناء المغربي أمام مؤسّسات تلهث وراء الربح والشهرة على حساب جماليّات الغناء وتراثه، وهو سؤالٌ مشروعٌ أمام انتشار البلاهة والاستسهال، والتي تُروّج لها شركات الإنتاج بالمغرب ومعها التلفزيون الذي غدا يُخصّص داخل برامجه الفنية فقرات عدّة لاستضافة هذه الوجوه، ليس باعتبارها تجارب غنائية فردية، وإنّما بوصفها تُمثّل صورة الغناء المغربي داخل محافل عربيّة ودولية.
من ثمّ، كان هذا الجدل مُفيداً لإعادة التفكير في مصير الفنّ بالمغرب ومساءلة تجاربه الغنائية على ضوء التاريخ ومفاهيم جديدة اكتسحت الواقع الذي نعيش فيه. ومع ذلك، فإنّ صخب الجدل ودعم وزارة الثقافة وقطاع الفنون، لم يكُن كافياً لتحريك عجلة الإنتاج الموسيقي وضخ دماء جديدة في شرايينه وفي كافة أنحاء جسده المنخور، وخاصّة أنّ مسألة الإبداع والتأليف تظلّ فردية وتعمل بمنأى عن مرحلة الإنتاج، والتي هي عملية لاحقة على نشوء العمل الفني كتابةَ، ما يُفسّر العجز الإبداعي الرهيب، الذي يُخيّم على هذا القطاع الفني.
كلماتٌ مرتجلة ومرقعة وخطاب فارغٌ غير مُركزٍ، يجعل هذه التجارب تلوذ بسرعة إلى الإيقاع الموسيقي وتكراره داخل المقطع الواحد للتغطية على عجز التأليف وهشاشته. لكنّ هذا الانحسار الإبداعي الذي ألمّ بالمشهد الغنائي في زمن كورونا، بدا واضحاً وكأنّ المستمع المغربي استعاد ذاكرته الفنية المسلوبة من كثرة الاستسهال الفني ونقده لهذه المؤسّسات الإنتاجية التي تُراهن على وجوهٍ معروفةٍ، أمام تجارب جديدة آسرة تظهر هنا وهناك، بل إنّ هذه الأصوات وجدت في بعض المنصّات والمواقع وأجهزتها الإلكترونية، مُتنفساً فنياً لإبراز مَواهِبها الغنائية، عن طريق محاكاة أغانٍ مغربيّة وعربيّة وأحياناً تعمد إلى كتابة أغانٍ أو تلحين أشعار من التراث العربي، لا سيما من التجربة الصوفية التي غدت مرجعاً كبيراً للعديد من هذه الأصوات الشابة.
ويظلّ غياب المهرجانات الفنية الحلقة الأكثر تأثيراً في مسلسل الإنتاج الموسيقي بالمغرب، وخاصّة أنّ هذه المهرجانات المهمّة، مثل: "موازين"، و"فاس" للموسيقى الروحية و"وجدة للراي" و"كناوة"، تُعتبر الوسيط الأبرز لهذا الإنتاج الموسيقي السنوي للذيوع في مُخيّلة الجمهور المغربي المُتردّد على هذه المهرجانات الموسيقية الكبيرة من أجل الاستماع إلى الجديد الغنائي. كما أنَّ المغرب يُعدّ في قائمة الدول المغاربيّة والعربيّة التي تُنظّم أكبر عددٍ من المهرجانات الفنية السنوية.