حوارات عدّة، يزخر بها "الأستاذ" (2023) للفلسطينية البريطانية فرح النابلسي، تُكثِّف شيئاً مهمّاً من أحوال بيئةٍ فلسطينية تواجه احتلالاً، وتجهد في ترتيب أحوالها الداخلية، وفق معركة يومية ضد الاحتلال الإسرائيلي. حوارات هادئةٌ ظاهرياً، ومعانيها تنبثق، بعفوية وسلاسة (مرهونتين بحِرفية أداء وشفافيته ومصداقيته وبساطته، وعمق تعابيره المبطّنة والمكشوفة)، من وقائع عيشٍ وعلاقات ومشاعر وتحدّيات. حوارات تخلو من خطابيّة، تُنْبَذ في معركةٍ يومية ضد الاحتلال، فالمعركة تحتاج إلى واقعية ووعي واحتيال/دهاء وعمل ميدانيّ، لا شعاراتٍ تُلهي عن الأهمّ: كيفية المواجهة ـ المقاومة، بأقلّ قدر ممكن من الخسائر، من أجل ربحٍ أفضل.
السابق نتاج مُشاهَدة، وكلّ إسقاطٍ على ما في "الأستاذ" من تفاصيل ومسارات متأتٍ من قراءة المُشَاهَد. والمُشَاهَد يكشف قصّصاً لأناسٍ يعانون فظائع الاحتلال (الفظائع غير ظاهرةٍ، وإنْ يظهر قليلٌ منّها فلحاجة درامية، كتدمير منزل شقيقين، لهما في واجهة القصص حيّز أساسي)، وبعضهم يواجِه، بصمت وسكينة، وبخفاء، فللمقاومة متطلّبات، ومن ينضوي فيها يُدرك هذا.
الأستاذ باسم (صالح بكري) يُدرِّس اللغة الإنكليزية في مدرسةٍ، وأحد تلاميذه آدم (محمد عبد الرحمن) سيُدمَّر منزله أمام عينيه (مع والدته وشقيقه)، وسيفقد شقيقه يعقوب (محمود بكري)، الخارج من السجن قبل وقت، برصاصة مستوطن حاقدٍ، يُشعل النار في أشجار الزيتون. تلك لحظة مفصلية: المُراهق يُصبح غاضباً ومتوتراً وراغباً في ثأر، والرغبة تُفقده تركيزاً؛ والأستاذ تنكشف خفايا في حياته، ماضياً وراهناً، برويّة.
ليزا (البريطانية إيمَجِن بووتس)، أخصائية اجتماعية بريطانية، تتقرّب من باسم، الذي يعترف لها، لاحقاً، ببعض المخبّأ في حياته. تدعم آدم، وتحاول إيجاد توازن له في يومياته. ترى بعينيها بعض الحاصل في فلسطين المحتلّة، بإقامتها في قرية "بورين" (جغرافيا الأحداث) وعيشها مع ناسها، واحتكاكها ببعضهم. لكنّها لن تكون الأجنبية الوحيدة، فهناك الزوجان كُوِن (ستانلي تاونسند وأندريا إيرفين)، الأميركيان الإسرائيليان العائدان إلى "إسرائيل" بعد خطف ابنهما الجندي نتانْيِل، الذي يبحث عنه إيلي ليبرمان (بول هرتزبيرغ)، قائد الأمن في الضفّة الغربية، مع فريق من رجال المخابرات والجنود.
مساران اثنان، يتداخل أحدهما بالآخر في أكثر من لحظةٍ: مسار الأستاذ باسم ومن حوله ومعه، ومسار البحث عن الجندي المخطوف. للمسار الأول خطّان اثنان أيضاً: حكاية الأستاذ نفسه، التي تتكشّف تدريجياً؛ وحكايته مع آدم أولاً، وليزا ثانياً. هذا كلّه مرتكزٌ على معاينةٍ هادئةٍ لغليان فلسطيني، يُعبَّر عنه بقول غير متشنِّج، فلسطينياً وأميركياً، وحتّى إسرائيلياً، رغم عداء شديد بين ليبرمان وباسم تحديداً، اللذين يعرف أحدهما الآخر، فلباسم تاريخٌ في المقاومة، وله ابنٌ يُتوفّى في السجن بسبب عدم اكتراث السجّان الإسرائيلي به وبصحّته المتدهورة (مفردة "الأستاذ" لن تكون عنوان الفيلم ومهنة باسم فقط، إذْ يُلمِّح ليبرمان إلى المفردة كلقبٍ للمُقاوم أيضاً).
القول غير المتشنِّج متمكّن من إظهار مسائل عدّة في واقعٍ وسيرة فلسطينيّين: واقع عيشٍ في بلدٍ محتلّ، وكيفية مقاومة الاحتلال، وأولوية الهدوء والتفكير، لا العصبيّة والغضب والانفعال؛ وسيرة تُصبح سِيَر أفرادٍ، لكلّ منهم/منهنّ أسلوب حياة ومواجهة.
في البحث عن الجندي نتانْيِل (لن يُكشَف وجهه أبداً، وظهوره نادرٌ للغاية)، طرفان اثنان أيضاً: سيمون (والد الجندي المخطوف) والمسؤول الأمني. بعينين توحيان بـ"براءة" و"جهل"، كأنّهما تشاهدان، لأول مرة، أحداثاً فلسطينية (كإذلال الفلسطيني في حاجزٍ)، يطّلع سيمون على بعض وقائع الصراع، والبحث عن ابنه جزءٌ من هذا الاطّلاع. المسؤول الأمني حادّ، وهدوءه أمام الزوجين كُوِن مخادعٌ، لأنّهما أميركيان أولاً، ولهما توصية من جهات عليا ثانياً، وابنهما جندي مخطوف ثالثاً. مواجهته الوحيدة مع باسم، في منزل الأخير، تشي بحقدٍ دفين، وبنزعةٍ عنيفة مضبوطة بذاك الهدوء المخادع.
تفاصيل عدّة تؤكّد جمالية نصٍّ (فرح النابلسي) منصرفٍ إلى كشف وقائع (الأحداث حقيقية، كما يُشار إليه في بداية "الأستاذ") تُعاش يومياً، مع انتباهٍ، جمالي ودرامي وفني، إلى ذاتٍ وشعور ورغبات (بعضها مضبوط، فالراهن غير مانحٍ حيّزاً لاطمئنان وسكينة، ومع هذا سيتحرّر هذا البعض من ضبطه، وإنْ بخفرٍ). تفاصيل يُفضَّل عدم ذكرها، فاكتشافها لحظة ظهورها في سياق سرد "الأحداث الحقيقية ـ الحكاية" أجمل. والأجمل أيضاً كامنٌ في المعاني المكشوفة في حواراتٍ، عن خطأ الغضب والسعي إلى الثأر، وعن أولوية العمل الجماعي وإنْ من خلال أفراد، وحقائق النزاع وآليات المواجهة.
سيمون كُوِن يكتشف أنّ للأستاذ "معرفةً" في خطف ابنه، فيبحث عنه، ويلتقيه في المدرسة، سائلاً إياه عنه. بكلامٍ موارب وذكي، ينفي باسم معرفته، لكنّه يقول له، بعد دردشة (يظهر سيمون أباً قلقاً، يحاول إقناع باسم بأنّ الإسرائيليين ليسوا جماعته): "سيُبقونه حيّاً مهما سيتطلّب الأمر". يسأله سيمون: "كيف تعرف هذا؟"، فيُجيبه: "لأنّهم (الفلسطينيون/المقاومون) يعلمون أنّ شعبَك يُدرك أنّ ابنَك يُساوي الآلاف من ابني".
كلامٌ كثير يقوله باسم لآدم، يحمل في طياته نتاج اختبارات جارحة وقاسية ومؤلمة، يعيشها الأستاذ في مراحل سابقة. كأنّه، في علاقته بالمُراهق، يريد ردم هوّة سحيقة في روحه وانفعالاته، يُحدِثها "فشله" في إنقاذ ابنه، الذي يُشجّعه على مقاومة المحتلّ، لكنّه يفقده. كأنّه يريد المُراهقَ نفسَه ابناً له، وهذا يحدث بشكلٍ ما لاحقاً. صالح بكري يمنح الأستاذ مفرداته كلّها، لكنّه يتجاوز مَنحاً كهذا في تقديمه باسم أباً ملتاعاً بصمتٍ، يخسر زوجته بعد فقدانه ابنه، ويجهد في عدم خسارة آدم بعد مقتل يعقوب. لكنْ، أهناك فرقٌ في شخصيتي الأستاذ وباسم؟ ربما. أيستمرّ باسم، مع الأستاذ أو من دونه أو بغطاء منه، في مقاومة المحتلّ الإسرائيلي، بطرق مختلفة؟ ربما. باسم يريد امرأةً في حياته، فيرتبط بليزا. لكنّ ماضيه ثقيلٌ ومؤلم ومُتعب، والخاتمةُ يصنعها بمشيئته، لعلّه يغتسل، ولو قليلاً، من قهر وغضب غير ظاهرين. في هذا، يؤدّي صالح بكري "الشخصيتين" كعادته في تحويل حِرفية المهنة إلى نبضٍ حيّ، يكاد يُخرج الممثل إلى حياةٍ وواقع.
ملاحظات أخيرة: في أكثر من مشهدٍ/لقطة، يعلو صوت موسيقى (ألكس برانوفْسكي) حزينة أو حماسيّة مخفَّفة، وتتكاثر مقاطعها أحياناً، وهذا مُزعج وغير ضروريّ، خاصة في لحظات حزن وغضبٍ، فالصمت، معطوفاً على أداءٍ مُحترف، كفيلان بمنح المشهد معناه ومناخه. لقطة اشتعال النار في أشجار الزيتون مثلاً: واضحٌ أنّها "مؤثّرات خاصة" غير مشغولة بحرفية تقنية صافية، بدلاً من أنْ تظهر حقيقيةً. شخصية ليزا (لعلّها موجودة فعلياً في الأحداث الحقيقية) غير مؤثّرة كفاية في البنية الفنية والسرد الدرامي، وأداء إيمَجِن بووتس عاديّ للغاية، فيه شيءٌ من تصنّع في إظهار تعاطفٍ وانفعالٍ إيجابيّين. مؤدّو أدوار رجال الأمن والجنود، الذين يندر ظهورهم أصلاً، غير محترفين في وظيفتهم الأمنية والعسكرية، على نقيض مؤدّي أدوار رجال المقاومة، الذين هم أيضاً يندر ظهورهم.
مع هذا، يحافظ "الأستاذ" ("ميتافورا للإنتاج الفني" مشاركة في إنتاجه)، المعروض أول مرّة دولياً في الدورة الـ48 (7 ـ 17 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، على سينمائيّةٍ ملحوظةٍ في النص والمعالجة والجُمل/الحوارات المكتوبة بدقّة، تبلغ حدّ العفوية والمصداقية، وأداء ممثلين وممثلات، رغم عدم تجاوز حِرفيّة بعضهم/بعضهنّ حدودها المهنية البحتة.