افتتاح أولمبياد باريس: عظمة المدينة وروعة الاستعراض

30 يوليو 2024
هذا استعراض يليق بعاصمة الفنون البصرية (جيمي سكواير/ Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس 2024 تميز بعروض فنية مذهلة على الماء، زوارق، أعلام ملونة، وسيرك متحرك، مع عزف وغناء على جزيرة مضاءة ومناطيد تحلق في سماء باريس.**
- **الحفل كان تحت إشراف توماس جولي وسيمون ستفورث، وشارك فيه 205 دول، 6000 رياضي، و2000 فنان، مدعومين بـ45 ألف متطوع، وانتهى عند برج إيفل بحضور 100 زعيم دولة.**
- **الافتتاح استعرض تاريخ باريس وقيم الثورة الفرنسية، مع شخصيات تاريخية وأدبية مجسمة، وديكورات حية، مجسداً تعدد الهوية الفرنسية ثقافياً وعرقياً وجنسياً.**

في مطلع كتابه "نوا نوا مذكرات تاهيتي"، سأل الفرنسي بول غوغان: "قلْ لي ماذا رأيت؟". رأيتُ في افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس (26 يوليو/ تموز 2024)، ما يلي: لوحات على الماء، زوارق، أعلامٌ مُلوّنة لبلدان، رياضيون بملابس من ثقافات مختلفة، سيرك متحرّك على حدائق "فرساي"، وصلات عزف وغناء وتماثيل من لوحات وسينوغرافيا حسّية دالّة، عازف ومغنّية على جزيرة صغيرة عائمة ومُضاءة بشعلةٍ تتلاعب بها الريح وسط النهر. أيّ شاعرية. جمهورٌ على الجسور والأرصفة، خلفه حدائق تظهر خضرتها الفاتنة ليلاً. لتوسيع الإطار الممتع للعين، حلّقت مناطيد في سماء باريس، ما مَكّن الإخراج التلفزيوني من عرض عظمة المدينة من فوق. سيُمكِّن هذا كلّ متفرّج من مقارنة القرية التي يعيش فيها بباريس التي تحتضن ملايين السياح في يومٍ واحد، ولا ينقطع فيها ماء ولا كهرباء ولا خبز ولا إنترنت. في كلّ هذا، رأيتُ قطرات المطر على "فوكيس" عشرات الكاميرات، التي تنقل المَشاهد إلى ملايين الشاشات في كلّ دول العالم.

من حَضّر هذا الذي رأيتُه؟ حضّره مخرج مسرحي شاب، عمل على الإدارة الفنية لعروض الافتتاح المختلفة، وقدّمه إلى العالم مخرجاً تلفزيونياً نقله إلى الشاشات من مسرحٍ بسقفٍ مفتوح، يمتدّ ستة كيلومترات. سبق للمخرج المسرحي توماس جولي (1982)، أنْ أخرج عرضاً مسرحياً في 18 ساعة، عن مسرحية "هنري السادس"، لويليام شكسبير. سبق للمخرج التلفزيوني سيمون ستفورث أيضاً أنْ نقل أربع دورات أولمبية، وصَوّر حفل تنصيب الملك تشارلز في لندن. مخرج يعرف التعامل مع الكاميرا، سيّدة الوسائط.

واضحٌ أنّ الطاقم المُشرف على الحفلة محترفٌ، وله مُنجز فني يمنحه شرعية القيام بمهمة كبيرة. طاقم وَجَد بتصرّفه موارد لوجستية مذهلة. في اليوم التالي للحفلة، استضافت إذاعة فرنسا الدولية بعض أفراد فريق إعداد الافتتاح، كتّاب وموسيقيون وسينوغرافيون وكوريغرافيون، الذين عملوا سنة ونصف السنة، مع ثلاثة آلاف لباس للممثلين، و12 ديكوراً في استعراضٍ فرعوني.

المخرج توماس جولي المدير الفني لحفلي افتتاح واختتام دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في باريس 2024، 2 يوليو 2024 (جويل ساجيت/فرانس برس)
المخرج توماس جولي (جويل ساجيت/ فرانس برس)

24 ساعة قبل حفلة الافتتاح هذه، تفاخرت وسائل الإعلام الفرنسية باللوجستيّ وجماليات المكان. تُخبر الوسائلُ العالمَ بأنّ افتتاح الألعاب الأولمبية سيكون في نهرٍ، لا في ملعب. ستحضر 205 دول في حفلةٍ، تمتدّ نحو أربع ساعات، يشارك فيها ستة آلاف رياضيّ وألفا فنان، مدعومين بـ45 ألف متطوّع. سينتهي الاستعراض عند برج إيفل، حيث يتحقّق وعد غناء سيلين ديون على منصة الافتتاح (تعمّد المنظّمون الغموضَ لخلق المفاجأة)، حيث سيكون 100 زعيم دولة، يحرسهم 45 ألف شرطيّ، بينهم 1800 شرطي أجنبي.

هذا لوجستيّ هائل، يكشف استعداد الدولة الفرنسية وجهوزيّتها لرفع التحدّي. قبل الاستعراض النهري، سبحت آن هيدالغو، عُمدة باريس، في نهر السين، لتؤكّد لمُشاهدي العالم أنّ النهر نظيفٌ، بعد إنفاق أكثر من مليار دولار أميركي لتنظيفه من التلوّث. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستقبل ممثّلي الدول على البساط الأحمر. تكشف أعمار الضيوف وملابسهم وطريقة السلام الكثيرَ عن شعوب الدول المشاركة. بالنسبة إلى المغاربة، الافتتاح انتصار على منتخب الأرجنتين.

صار افتتاح مسابقات الألعاب العالمية حدثاً يمزج الفن بالرياضة والتموقع الجيوستراتيجي. أخرج الصيني زهانغ ييمو افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين (الثامن من أغسطس/ آب 2008)، وأرّخ الممثل مورغان فريمان وغانم المفتاح افتتاح مونديال قطر (20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022)، وصنعت سيلين ديون (الكندية) وكارل لويس (الأميركي) وليدي غاغا (الإنكليزية) وزين الدين زيدان (الفرنسي الجزائري)، حدث باريس. العولمة الديموغرافية في أعلى تجلّياتها.

بعد غناء ليدي غاغا، بطلة "ميلاد نجمة" (2018)، لبرادلي كوبر، وغناء سيلين ديون، التي أبكت مشاهدي "تيتانيك" (1997)، لجيمس كاميرون، أعلن الرئيس الفرنسي افتتاح أولمبياد العصور الحديثة.

على ماذا يدلّ هذا الذي رأيته؟ يدلّ على عظمة الفنّ الفرنسي. هذا استعراض يليق بعاصمة الفنون البصرية، في القرون الخمسة الأخيرة، منذ جلب الملك فرنسوا الأول لوحة موناليزا من إيطاليا، ودعا صاحبها ليوناردو دافينشي، عام 1516، إلى الإقامة في فرنسا، وعيّنه كبيراً للرسّامين والمهندسين والمعماريين، ومُعلّماً لهم. لكشف هذا المجد الفني، كان هناك هاجس لدى المنظّمين الفرنسيين: كيف كانت صورة فرنسا في القرن 19، وكيف صارت في بداية القرن 21؟ كيف يُمكن تقديم أفضل الصُوَر عن المدينة والبلد؟

سيلين ديون في افتتاح أولمبياد باريس (Getty)
سيلين ديون في الافتتاح (Getty)

بدأ العرض النهري من الباستيل، ووصل إلى برج إيفل. باريس ونهرها يرويان التاريخ. كان الاستعراض رحلةً في الزمن. تُغني الصُور والفيديوهات المبثوثة في الشبكة العنكبوتية عن الوصف. لذا، ستنصرف هذه المقالة إلى تفسير وتعليق. بدأ الاستعراض النهري بزورقٍ يحمل فريق الإغريق، مخترعي الألعاب. فريق يركب قارباً، اسمه "دون جوان" (عنوان فيلم لآلن كروسلاند، 1926. أُنجزت صيغٌ كثيرة منه، آخرها عام 2022). تُضاف إلى هذا البطل العاطفي مشاهد مدينة الغواية، التي منحت الحرية للنساء باكراً.

افتتاح الألعاب الأولمبية استعراضٌ فخم، ودعاية، ورسم، وألوان كولاج، وأقنعة. السينوغرافيا، أي فنّ تزيين المسرح والديكور بالرسم. ديكورات حية. صُور حية تنطق بالـ"كلمة"، كما كتب الفرنسي جيلبيرت دوران في "الخيال الرمزي". قال إنّ "الصورة حضور الشيء بعظمه ولحمه أمام الإدراك". الصُور تجسيم. لذلك، عرضت حفلة افتتاح الألعاب الأولمبية شخصيات الكتب، التي طبعت تاريخ باريس، مُجسّمةً. تمّ تأثيث نهر السين بلوحات وتيمات قيم الثورة الفرنسية، التي غيّرت العصر الحديث. ثم عرض الافتتاح قيم الحرية والمساواة والإخاء والاحتفال والرياضة، مُجسّمةً ومُجسّدة. لا مكان للتجريد في الاستعراضات الباريسية، التي صمّمها المخرج الشاب.

مَوقَع المخرج توماس جولي شخصياته لتكون معزولة ومرئية، على ركح مُضاءٍ ومُلوّن ومستطيل، لصنع بهجة العين. تعرف الشخصيات (الممثلون) موقع الكاميرا لتتوجّه إليها، فتتواصل مع مليار مشاهد يعيشون حَرّ الصيف، ويتابعون استعراضاً صيفياً تحت المطر، ما يُهدّد بانزلاق الفنانين.

عَمل جولي على تنظيمٍ بصري مشهدي للاستعراض، غربل فيه تاريخ فرنسا، ليحتفظ باللحظات الدالّة، بهدف إدهاش المُشاهد. واضحٌ أنّه نُظِّمت بروفات، وتمّت إدارة الممثلين ليتقمّصوا الشخصيات التاريخية، التي يؤدّونها، لتكون مفهومة. لا مجال للارتجال في السينوغرافيا التي تخاطب العين. لذلك، تكرّرت لازمة "غراف" (graphy) في كلّ مهن العرض: فوتوغراف، سينماتوغراف، سينوغراف، كوريغراف. هذا في كلّ ما يتعلّق بما يقدّم للعين، كما في كتابة ما قبل الحرف (hieroglyph). للإشارة: السينوغرافيا "تحويل النوع الروائي إلى نوعٍ سينمائي، بمعمار تصميم (حركي ـ حواري ـ اقتباسي)، يهتمّ بالفكرة والصورة والتقنية" ("المعجم الموحّد لمصطلحات الآداب"، ص 135). تجلّى ذلك في مشهد إعدام الملكة، التي لم تنتبه إلى جوع شعبها. هذ سردية تاريخ فرنسا، منثوراً على نهر السين. فيه فقرات منتقاة ودالّة، قديمة ومعاصرة.

هذا مثل معاصر للمشاركين في المنصة: صعدت المغنية آية ناكامورا لتغنّي في الافتتاح، بعد أنْ رفضها اليمين الفرنسي المتطرّف، لأنّها سوداء من مالي، ولا تغنّي بفرنسية سليمة، وبالتالي لا تمثّل فرنسا. بحسب مارين لوبان (حزب التجمّع الوطني)، ناكامورا تُهين فرنسا. لكنّ المغنية تحظى بمتابعة مهولة في "إنستغرام" و"تيك توك". لذلك، اعتبر المنظّمون أنّها تمثّل فرنسا، رغم لكنتها ولون جلدها. سَارت بجسدها الاستثنائي على منصة افتتاح الألعاب الأولمبية في قلب باريس، وهي تشير بحركة تحدّ إلى الكاميرا المتراجعة، في "ترافلينغ" إلى الخلف.

آيا ناكامورا أثناء تأديتها عروضها خلال حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية باريس، 26 يوليو 2024 (إيسا ألكسندر بول/Getty)
آية ناكامورا في الافتتاح (إيسا ألكسندر بول/Getty)

هذا مثل صغير على خلفيات "كاستينغ" الفنانين والشخصيات المشاركة في الافتتاح. يُمكن إضافة حضور زين الدين زيدان، الذي يطمح إلى تدريب المنتخب الفرنسي، لكنْ هناك من يعترض.

ختاماً: مَجّد افتتاح الألعاب الأولمبية تعدّد الهوية الفرنسية، ثقافياً وعرقياً وجنسياً. سيوفّر هذا موضوع جدل، يدعم تمديد زمن التغطية الإعلامية. كثيرون سيُعجَبون بمعمار المدينة، وسيرفضون قيمها.

المساهمون