أشعلت قضية الشابة مهسا أميني نار الغضب في الشارع الإيراني، إذ تتواصل الاحتجاجات في البلاد، منذ وفاتها في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، بعد ثلاثة أيام على اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق التي اتّهمتها بانتهاك قواعد اللباس الصارمة في البلاد.
وبينما تتصاعد وتيرة الاحتجاجات، وسط مقتل العشرات واعتقال الآلاف، تواصل السلطات الإيرانية قمع شعبها في عملية ممنهجة، تتوزع فيها أدوار أجهزة الدولة بين مؤسسات أمنية واستخباراتية والجهاز القضائي الذي يُوظّف لخدمة النظام، إضافة إلى مؤسسات الدولة التقنية والفنية والسيبرانية التي تمارس القمع الرقمي، عبر قطع الإنترنت، وحجب أغلب مواقع التواصل الاجتماعي.
في 19 سبتمبر، نشر موقع نتبلوكس الذي يراقب الأمن السيبراني وحوكمة الإنترنت في العالم تقريراً حول الانتهاكات الرقمية في إيران، أشار فيه إلى قطع مُتعمّد لشبكة الإنترنت في أجزاء من إقليم كردستان، غربي البلاد، بالتزامن مع انطلاق الاحتجاجات. كما وثّق التقرير قطع الاتصالات الإقليمية في مدينة سنندج وما حولها، وذلك بعد انقطاع جزئي في خدمات الإنترنت في العاصمة طهران وغيرها. وفي 21 سبتمبر، قيّد جميع مزودي الإنترنت الرئيسيين الوصول إلى تطبيقي واتساب وإنستغرام، علماً أن "تويتر" و"فيسبوك" محظوران منذ سنوات.
ومع توّلي الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي سدة الرئاسة، تكثّفت الرقابة على الإنترنت، عبر تعطيل الشبكات الافتراضية الخاصة، وعرقلة التشفير على تطبيقات المراسلة، وتقييد عمليات البحث عن طريق "غوغل"، في الوقت الذي تواصل فيه السلطات بناء شبكة إنترنت محلية خاصة، على غرار الصين.
تعتبر سياسة قطع الإنترنت منهجاً ثابتاً في سياسات النظام الإيراني، فخلال تظاهرات عام 2019 قُطع الإنترنت عمداً، لإخفاء عمليات القتل غير المشروع على أيدي قوات الأمن، وفق ما أفادت حينها منظمة العفو الدولية (أمنستي). ممارسات الانتهاكات الرقمية للسلطات الإيرانية لا تقتصر على قطع الإنترنت، بل تشمل كمّ الأفواه، وملاحقة المعارضين والمعبّرين عن مواقفهم وآرائهم على منصّات التواصل الاجتماعي. في يناير/ كانون الثاني الماضي أفرجت السلطات الإيرانية عن الناشطة الحقوقية آتنا دائمي، بعد 5 سنوات من اعتقالها وسط ظروف صحيّة ونفسية صعبة، لنشرها آراء معارضة للنظام الإيراني. وتعتبر آتنا دائمي حالة من بين مئات الحالات المشابهة في إيران.
ويعاني الناشطون الإيرانيون من انتهاك خصوصيتهم، من خلال تفتيش هواتفهم من قبل السلطات الأمنية. كما تنشط مجموعات القرصنة التابعة للنظام الإيراني في اختراق حسابات الشخصيات المعارضة خارج الأراضي الإيرانية.
وخلال الأحداث الأخيرة، أشار وزير الاتصالات الإيراني، عيسى زارع بور، إلى أن وضع قيود على الإنترنت أمر "طبيعي" في هذه الظروف، مؤكداً أنه من الوارد أن تقيّد السلطات الأمنية الإنترنت بسبب الوضع الأمني والتطورات التي تشهدها البلاد، في تشريع واضح للقمع الرقمي. وتستند السلطات الإيرانية في سياستها هذه إلى قوانين توظّفها في الحصار الرقمي على الشعب الإيراني، وادعاءات وتهم توجّهها للمعارضين وناشطي الرأي، مثل تهديد الأمن القومي أو الإرهاب.
من جهة ثانية، حذرت هيئة التجارة الإلكترونية، خلال سبتمبر، من انهيار جديد في سوق العمل، وخسارة 400 ألف مهنة، وفقدان مليون شخص وظائفهم، جراء قطع شبكة الإنترنت. واحتجت الهيئة على أوضاع الشبكة والقيود المفروضة من السلطات على منصات التواصل. وفي بيان على حسابها على "إنستغرام"، أشارت الهيئة إلى أن "حجب شبكات التواصل الاجتماعي والمواجهة القاسية مع مستخدمي الإنترنت وعشرات القرارات الخاطئة لم تطاول جذور التجارة الإلكترونية فحسب، إنما تتسبب في موجة من الاستياء بين العاملين في الشركات والمؤسسات النشطة في مجال التكنولوجيا، ما تسبب في إضراب بعض من العاملين في هذه الشركات". وأضافت أن حجب "إنستغرام" يعرض 400 ألف مهنة للانهيار، ويهدد معاش مليون شخص، ووصفت القرارات الحالية بـ"شفرة العقوبات الداخلية".
كما أعلنت شركة البريد الوطنية الإيرانية، في أكتوبر/تشرين الأول، عن تراجع مواردها، في وقت تواصل السلطات فرض القيود على الإنترنت، وحجب تطبيقي إنستغرام وواتساب.
واتجه كثير من الإيرانيين إلى استخدام برامج فك التشفير للوصول إلى المواقع المحجوبة رغم عدم فعالية ذلك، جراء حظر خوادم "دي إن إس" في البلاد، وتعطيل الشبكات الافتراضية الخاصة، وعرقلة التشفير على تطبيقات المراسلة، وتقييد عمليات البحث في "غوغل".
ووصف مرصد نتبلوكس تقييد الاتصال بالإنترنت بأنه أشد قيود الإنترنت الإيرانية صرامة منذ احتجاجات نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عندما شهدت البلاد انقطاعاً شبه كامل للإنترنت لم يسبق له مثيل آنذاك. يكمن الهدف الأساسي وراء سياسات السلطات الإيرانية ونهجها المستمر في انتهاك الحقوق الرقمية للمواطن الإيراني في إخفاء الحجم الحقيقي لعمليات القمع، إضافة إلى كمّ الأفواه، وطمس الحقائق، ومنع نقل ما يجري خارج حدود الحدث، فضلاً عن محاولاتها عرقلة تجمّع المتظاهرين، وقطع التواصل بين بعضهم البعض.