يحتفل صحافيون عرب بذكرى غياب (أو ولادة) أديب أو فنان أو شخصية عامّة، أو تحقيق نتاج ما (الاحتفال بهذا الأخير نادرٌ)، من دون اكتراثٍ بعدد الأعوام التي تستدعي احتفالاً كهذا. الغرب، أو بعضه على الأقلّ، يحتفل. لكنّ اختياره موعد الذكرى يتلاءم وتقليدٍ منطقيّ: 10 أعوام، ربع قرن، نصف قرن، مئة عامٍ، 250 عاماً، وهكذا. العرب يريدون احتفالاً بأيّ شكل. في تقاليدهم اليومية، يتذكّرون راحلاً بعد أسبوع، وبعد أربعين يوماً، وبعد سنة. هذا إنسانيّ حميميّ طيّب. لكنْ، بماذا يُفيد في الأدب والفنون والحضور العام؟ المشكلة أنّ بعض هؤلاء غير مكترثٍ بمعنى الاستعادة ومغزى الاحتفاء. الأسوأ في سلوكه هذا كامنٌ في مضمون الاستعادة والاحتفاء: ما الجديد الذي يُقدّمه؟
إزاء فراغ المضمون، يفقد التعليق على عدد أعوام استعادة ذكرى والاحتفاء بها أهميته. في مصر، يتكرّر هذا دائماً، في مناسبات كثيرة، بل في لا مناسبات أكثر. الاستعادة، بالنسبة إلى كثيرين منهم، غير محتاجة إلى ذكرى أو مناسبة. صحافيون مصريون يكتبون، بين حينٍ وآخر، عن يوسف شاهين وسينماه، من دون مناسبة أصلاً، ومن دون أي جديد مُفيد يُذكر. أساساً، الاحتفاء بذكرى مرور 10 أعوام أو ربع قرن مثلاً يفقد غالباً كلّ أهمية مرجوّة منه، إنْ يكن غير متضمّن أيّ جديد في تحليلٍ أو مقاربة أو اكتشاف، فيُمعِن في كلامٍ مُستهلَك ومُكرَّر، وإنْ بتعابير مختلفة، أحياناً.
اختيار يوسف شاهين لن يُلغي أسماء أخرى، يُحتفى بها أيضاً في صحافةٍ مصرية، من دون اكتراثٍ بالمعنى الثقافي والإنساني والمهنيّ للاستعادة والاحتفاء، ومن دون مبالاة بأي فائدة مطلوبة. لكنّ شاهين يبقى الأكثر حضوراً، لأسبابٍ "غير مفهومة"، بينما يندر أنْ يُستعاد (رغم عدم صوابية استعادة غير واضحة أسبابها، وغير مفيد مضمونها)، مخرجٌ آخر من جيله، أو من جيل سابق أو لاحق عليه. هناك أسماء أخرى في مجالات أخرى، أبرزها عمر الشريف وفاتن حمامة مثلاً. لكنّ المشترك في استعادتهم، بين وقتٍ وآخر (إذْ لن يكون هناك داعٍ لانتظار مناسبة ما)، كامنٌ في كتابةٍ عادية تغلب عليها، أحياناً، ذكريات شخصية لمن يكتب، أو انفعالات شخصية لمن يكتب إزاء المحتفى به.
لا إنكار لأهمية سينما يوسف شاهين ومخرجي جيله، ولحِرفية أداء عمر الشريف وفاتن حمامة وغيرهما. أهميتهم وحِرفيّتهم معطوفة غالباً على أفلامٍ تحضر عميقاً في ذاكرةٍ، وتُبرز جماليات اشتغال وتغيير، وتُثير سجالاتٍ مختلفة. لكنْ، ما الجديد في كتاباتٍ تستعيد ذكرى، أو تحتفل بمرور زمنٍ على رحيلٍ أو ولادة، أو على تحقيق فيلمٍ، إنْ يحصل هذا؟ ما المفيد الذي يُقدّمه نصٌّ حديث عن تجربة قديمة؟ إنْ تفقد جديداً يُثير قراءة ونقاشاً، فلماذا تكتب؟
هناك كتابات تحفر في أعماق نتاجٍ، وتبحث عن مخفيّ في سيرة، وتكشف شيئاً مجهولاً عن آلية عمل، بعد مرور وقتٍ ورحيل. لكنّها كتابات نادرة للغاية، تنبثق من رغبةٍ في إعمال تفكيرٍ في صناعةٍ أو صانعٍ، يرتكز (التفكير) على مفردات حديثة (إنْ تنوجد بين حينٍ وآخر) في علومٍ إنسانية، والنقد السينمائيّ قابلٌ للاستفادة منها. ندرة كتابات كهذه تكاد تختفي وسط كمٍّ غير معقول وغير مقبول من الكتابات المتكرّرة. أمّا الذكريات والخبريات الشخصية، فتبدو نبعاً غير ناضبٍ البتّة، إلى درجة يستحيل معها، أحياناً، تصديق ما "تختزنه" من مرويّات.
ينسحب بعض الملاحظات على كتبٍ، تندرج في السياق نفسه أيضاً، لكنْ خارج تكريمٍ يُريده مهرجانٌ سينمائيّ. تكريم المهرجان بسيط ومتواضع وعادي، والكتابة عن المُكرَّم ترتكز على حوار طويل لسرد خبريات وذكريات، أو كتابة تكتفي بالإيجابيّ المبتعد عن كلّ تحليل نقدي، لأنّ مناسبة كهذه تريد تكريماً واحتفاءً فقط (رغم أنّ مطبوعاتٍ كهذه غير مفيدة للمهتمّ والعارف والمطّلع والمتخصّص، إلاّ نادراً). لكنّ المُنصرف إلى التأليف خارج المهرجانات وتكريماتها غير مُتميّز عمن يستعيد فلاناً أو فيلماً أو موضوعاً (والاستعادة العربية لفيلمٍ أو موضوع نادرة جداً)، بل يصطف إلى جانب محتفلين بالأسماء نفسها دائماً، بدل اختيار مواضيع وشخصيات مستلّة من راهنٍ، والراهن مليء بمواضيع وشخصيات، تحتمل نقاشات وتحاليل وحوارات.
هذا يحتاج إلى جهدٍ، تخفّ حدّته مع اختيار المُكرَّر، لأنْ لا جديد في المُكرّر، ولا حاجة إلى تفكير وتحليل جديدين. إلا عندما يجهد أحدهم في تبيان الجديد في علومٍ ومَعارف، ففي جديدٍ كهذا فائدة يستغلّها النقد في قراءات إضافية لقديمٍ ما.