يقدّم الصحافيون والنقاد نتاجاً سينمائياً مبشراً هذه السنة. بعضه يندرج تحت لائحة السينما الروائية بنصوص ومعالجات درامية لافتة، وآخر يحيي النوع القديم المحبب، ويطأ الأراضي المجهولة معيداً تعريفها من جديد مع أفلام وثائقية تتحدى حدودها. في فيلم ?!?Is That Black Enough for You (هل يكفيكم هذا السواد؟!؟) يقدم الناقد السينمائي والصحافي السابق في صحيفة نيويورك تايمز، إلفيس ميتشل، مراجعة تاريخية وتوثيقية لأفلام السينما السوداء، أو هكذا على الأقل ارتأى ميتشل تسميتها عبر الفيلم.
يعرّف الوثائقي السينما السوداء بتلك التي صنعها أشخاص ملونو البشرة، أو التي تدور حول قضايا الأشخاص ملوني البشرة في الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً خلال فترة السبعينيات المضطربة. ويلقي الضوء أيضاً على الروابط العضوية الوثيقة بين السينما السوداء والموسيقى السوداء التي يصفها ميتشل بانفجارات حادة في "الفكر والصوت"، وقد ازدهرت مع أسماء مثل أيزاك هايز وذا جاكسون فايف، وكانت ملاذاً سحرياً، ومنفى في بعض الأحيان، للممثلين الذين طردتهم هوليوود عن شاشاتها ودفعتهم إلى مجال الغناء والموسيقى، عوضاً عن التمثيل والإخراج.
حُبك الوثائقي بمشاهد عديدة ومتقطعة من الأفلام ومقاطع الموسيقى التي يتناولها ميتشل في بحثه، وهي أكثر من مائة فيلم روائي وأغنية، إضافة إلى العديد من المقابلات الحميمية والممتعة مع لورانس فيشبورن وووبي غولدبرغ وماريو فان بيبلز وصامويل إل. جاكسون، الذين نشأ معظمهم خلال تلك الحقبة، أو من ورثوا عن سابقيهم الإرث الضخم من مؤدين جدد، كالممثلة الشابة زندايا.
يركز ميتشل على المواهب التي نجحت في تولي الدفة وانتزاع مكان لها وسط مناخ عام من العنصرية والانغلاق. ويتطرق أيضاً إلى المسيرات الفنية التي عرقلتها ماكينات الإنتاج وسمرت أقدامها، ساعية إلى طي صفحاتها لأسباب عدة، منها مواقفها الصلبة إزاء الممارسات العنصرية، مثل هاري بيلافونتيه وبيلي دي ويليامز وغلين تورمان. ويروي حوادث مثبتة عديدة عن استديوهات ومديرين تنفيذيين انغمسوا في سياسات تمييزية، وعن جوائز مرموقة عديدة فشلت في تكريم الممثلين السود، وتحديداً النساء منهم.
يجمع ميتشل كل تلك الحوادث، مفنداً الروابط غير المعلن عنها بين السياسة والثقافة، موضحاً الدور الهائل الذي يلعبه المال في كل ما سبق. ويقدم نتائجه ممزوجة بكثير من الملاحظات والانطباعات الشخصية عن تلك المرحلة، أحدها ينقله ميتشل عن جدته، ومعظمها تنبع عن تجاربه المتنوعة التي يختزلها بكلمات معبرة: "كانت حياة من مشاهدة الأفلام والتفكير بها والكتابة عنها".
ليست تلك المرة الأولى التي يتحدث فيها ميتشل عن الصناعة الترفيهية السوداء، وكيف تفاعل روادها مع المساحات غير الودودة من حولهم، ولعل أشهر إنتاجاته في هذا السياق هو كتاب The Black List. أسوة بالقائمة السوداء الخبيثة التي تحمل أسماء وجب نبذها، يصنع ميتشل أخرى تحتفي بأسماء اثنين وعشرين أميركياً أفريقياً وقصصهم الشخصية ونضالاتهم التي تغني الثقافة السوداء في الولايات المتحدة. أما فيلمه الجديد، فعنوانه الإشكالي "هل يكفيكم هذا السواد؟!؟"، يأتي من فيلم نيو نوار صدر عام 1970 تحت عنوان Cotton Comes to Harlem، وهو بدوره مأخوذ عن رواية لتشستر هايمز تحمل العنوان نفسه.
يتحرك الفيلم بسرعة هائلة محاولاً تغطية أكبر قدر ممكن من الوقائع الفنية التي يستعرضها ميتشل بنبرة متزنة وأسلوب سردي يسهّل تتبع الأحداث التاريخية غير الكرونولوجية على مدى ساعتين، مغرقاً كلامه بالشغف الشخصي تجاه التجارب السوداء المبكرة، وبالغضب الكبير لما عانى منه رواد تلك المرحلة من تهميش وعنصرية ممنهجين.
ويقسم ميتشل تاريخ السينما السوداء في فترة التأسيس إلى مرحلتين أساسيتين، الأولى لم يكن من المحبذ فيها رؤية وجه أسود على الشاشة، لذا استعيض عن الممثلين السود بآخرين بيض البشرة، لونوا وجوههم بالمكياج وفق ظاهرة تعرف اليوم بـBlackface، أو تلوين الوجه بالمكياج من قبل ممثل أبيض لأداء شخصية سوداء. استخدمت تلك الظاهرة عبر الكثير من الأفلام الكلاسيكية التي وصفها ميتشل بالـ"مخيبة لآمال السود دوماً"، مشاركاً صوراً مهينة تصعب مشاهدتها من الفيلم الكلاسيكي المحبوب Singin’ in the Rain ولقطات من أعمال أورسون ويلز ولورانس أوليفييه وألفريد هيتشكوك، مشيراً بشكل خاص إلى قفازات ميكي ماوس البيضاء وغيرها من الرموز والإشارات العنصرية التي غزت أفلام الرسوم المتحركة للأطفال.
مع احتجاجات حركة الحقوق المدنية التي عمت شوارع أميركا في تلك الفترة، التفتت شركات الإنتاج في نهاية المطاف إلى صناع الأفلام السود، وحاولت جذبهم بشتى الطرق إلى شاشاتها االكبيرة، لكنها أنتجت تجارب مؤسفة، اعتاشت على آلام المجتمعات الملونة واستغلت نضالاتهم، جاعلة الجسد الأسود، الأنثوي تحديداً، موضوعاً لتحديقة الرجل الأبيض عبر صور نمطية مفرطة في الجنسية والشهوانية، مبتدعة نوعاً سينمائياً فرعياً يدعى Blaxploitation، وهو مصطلح يدمج بين كلمتي "أسود" و"استغلال"، صاغه جونيوس غريفين عام 1972، ويشير إلى استغلال بعض العاملين الفنيين، من ذوي البشرة البيضاء تحديداً، صورة المجتمعات السوداء وإعادة إنتاج الصورة النمطية عنها بغرض الربح.
وعلى الرغم من السلبيات المذكورة والموثقة تاريخياً لأفلام Blaxploitation، فإن ميتشل يقترح أنّ لتلك الصناعة الفضل الأكبر في دحض الصور المعتادة عن السود، كخدم وخادمات، ومنحتهم فرصاً متنوعة ليكونوا شخصيات معقدة ومركبة نفسياً واجتماعياً وسياسياً. كما فتحت المجال للممثل الأسود للتألق والاعتداد بهيئته الجسدية، بعدما كرست سياسات الترفيه، عقوداً طويلة، اللون الأسود مرادفاً للتشاؤم والرعب والقبح، إذ يستذكر الممثل بيلي دي ويليامز، عبر الوثائقي، نزوله الأسطوري عن السلالم في فيلم السيرة الذاتية لبيلي هوليدي، مشيرًا إلى أنه "وقع في حب نفسه" التي لم يرها من قبل على هذه الهيئة الجميلة.
اخترقت الأفلام السوداء الاحتكار الأبيض لأفلام الغرب (ويسترن) وأفلام الرعب أيضاً، وبات من الممكن رؤية راعي بقر أسود على حصان، كما افتتحت الأبواب أمام الممثلات السوداوات، مثل ديانا روس وبام غرير وسيسيلي تايسون، لأداء أدوار كبيرة دحضت صورهن كموضوعات مجردة للجنس، وأسست لمنهج تمثيلي يستمر عقوداً طويلة.
يكتب ميتشل تاريخاً مرئياً يقاوم عبره المحو الثقافي لتاريخ السينما السوداء، ويستعرض أهم محطاتها الممتدة من عام 1968 وحتى عام 1978. ومع أن الفيلم يناقش أحداثاً وقعت في الماضي، إلا أنه بذلك يقترح سؤالاً ضمنياً عن الحاضر أيضاً؛ إلى أين وصلنا في مسيرتنا للدفاع عن حقوق الفئات المهمشة سابقاً؟ وما الذي يجب فعله حتى لا يكرر التاريخ نفسه؟