تجدّد النزاع على ملكية تراث أم كلثوم الفني، إذ فوجئ المتابعون بقرار أصدره المجلس الأعلى للإعلام في مصر، يخطر فيه المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت، بأن شركة صوت القاهرة هي الجهة الوحيدة التي تملك جميع الحقوق المتعلقة بملكية تراث أم كلثوم الغنائي ونشره وبثه. وقد صدر القرار بعدما تلقى المجلس خطابا رسميا من شركة صوت القاهرة تؤكد فيه أنها حصلت على حكم لصالحها يحسم النزاع مع المنتج الفني محسن جابر، الذي يقول إنه اشترى تراث أم كلثوم كاملا من ورثتها منذ سنوات.
ربما اعتقدت قطاعات واسعة من الجماهير العربية أن تراث مطربة العرب الكبرى ملك لمصر حكومة وشعبا، وملك للجماهير التي توحدت من بغداد إلى الرباط لعقود حول صوت أم كلثوم.. لكن الحقيقة أن النزاع حول تركة أم كلثوم، مادية كانت أم فنية، بدأ منذ رحيل السيدة في فبراير/ شباط عام 1975. فالورثة الأحد عشر قرروا بيع الفيلا التي سكنتها كوكب الشرق منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وتوافقت رغبة البيع مع رغبة نافذين ونافذات بنظام الرئيس أنور السادات في هدم الفيلا، رغم صدور قرار رسمي بتحويلها إلى متحف يضم مقتنيات المطربة الكبيرة.
ومع دخول عقد التسعينيات، اشتعل النزاع حول ملكية التراث الفني لأم كلثوم، أو حول مقدار العائد المادي منه بين ورثتها من جهة وشركة صوت القاهرة من جهة أخرى.
وخلال العقدين الماضيين، اتسع النزاع بين الشركة والورثة، ومعهم المنتج الفني محسن جابر، صاحب شركات عالم الفن، وستارز ديجيتال، وساوند، والذي يؤكد أنه اشترى حقوق التراث الكلثومي، وأن عقد صوت القاهرة مع الورثة انتهى من دون تجديد.
وفي يوليو/ تموز الفائت، أصدرت المحكمة الاقتصادية بالقاهرة حكما نهائيا، اعتبرته شركة صوت القاهرة حاسما للنزاع، وأخطرت فيه المجلس الأعلى للإعلام الذي أصدر بيانا منذ أيام يؤكد تلقيه مذكرة من شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات تفيد بأنها قد حصلت على حكم تاريخي يؤكد أحقيتها وحدها في حقوق استثمار أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، سواء كانت على دعامات سمعية أو بصرية، وأن أي استغلال لأي منها بغير ترخيص كتابي مسبق يؤدي إلى مسؤولية جنائية ومدنية طبقا لأحكام الكتاب الثالث من القانون رقم 82 لسنة 2002 الخاصة بحماية حقوق الملكية الفكرية.
في الوقت الذي تؤكد فيه أطراف النزاع حرصها البالغ على صيانة التراث الغنائي لأم كلثوم وحفظه وإتاحته ميسورا للملايين من عشاق سيدة الطرب، يرى كثير من المهتمين بجمع تراث كوكب الشرق وتوثيقه وأرشفته أن كل الأطراف أهملت الجانب الأكبر من هذا التراث النفيس، وأن التعامل مع تسجيلات السيدة كان متروكا لموظفين لا يعرفون شيئا عن محافلها ولياليها، ويمكن حصر مظاهر إهمال شركة صوت القاهرة لهذا التراث في عدة جوانب:
أولا: المونتاج: فالغالبية الساحقة من التسجيلات التي تصدرها صوت القاهرة لأم كلثوم جاءت في زمن 40 دقيقة للشريط، حتى ولو كان الزمن الحقيقي للأغنية ساعة أو أكثر، وقد طاول المونتاج مناطق بالغة الروعة في أداء السيدة، وأعمل الموظفون مقص الحذف لضبط التسجيلات على الزمن المحدد.. وهكذا يرى زبائن صوت القاهرة أغنيات مثل رق الحبيب، يا ظالمني، حيرت قلبي، جددت حبك، أهل الهوى، وغيرها، وقد جاءت كلها في مدة 40 دقيقة، وكأن أم كلثوم تضبط غناءها على عقارب الساعة.
وعندما اختارت الشركة بعض الحفلات لإصدار ما سمته "نسخة مطولة" تصدر في زمن ساعة ونصف، استمر المونتاج المشوه، لكنه كان هذه المرة بالزيادة لا بالحذف، فإذا كانت الأغنية مدتها ساعة وربع، أضاف الموظف الممنتج 15 دقيقة من التكرار، كي يصدر الشريط في صورته المطولة، ويمكن أن نمثل لذلك بالحفل المطول لقصيدة "قصة الأمس".
كما أصدرت الشركة عددا محدودا من التسجيلات بمدة 60 دقيقة، وأيضا لم تسلم من مونتاج الموظفين. ومن أشهر الأمثلة لهذه الإصدارات قصيدة نهج البردة، من محفلها التاريخي بدمشق، وهي في تسجلها الأساس 69 دقيقة، حذفت الشركة منها 9 دقائق من الارتجالات والتصرفات البديعة، لا سيما في جملة: يا رب هبت شعوب من منيتها.
ثانيا: اقتصرت الشركة في إصداراتها على حفل واحد من كل أغنية، واستمرت في إصداره لعقود، حتى اليوم، فلا نجد لديها إلا حفلاً واحداً ممنتجاً لأغنية دليلي احتار، في وقت يستمتع عشاق فن الست بـ24 محفلا للأغنية. وبينما اكتفت الشركة بتسجيل واحد لأغنية يا ظالمني، يتبادل الهواة نحو 30 محفلا للأغنية ما بين قاهري ودمشقي وبيروتي.. وهو ما ينطبق على نحو 15 محفلا لعودت عيني، وأكثر من 20 محفلا للأطلال، ونحو 18 محفلا لأهل الهوى.. وهكذا في معظم أعمال السيدة قديمها وحديثها.. وهو ما يمكن معه أن نعتبر أن المتنازعين يتصارعون على نحو 10% فقط من تراث أم كلثوم الشائع والمتاح في عشرات المواقع الإلكترونية.
ثالثا: خلت جميع إصدارات شركة صوت القاهرة من أي بيانات تشير إلى زمان الحفلة أو مكانها.. كما خلت جميع التسجيلات من التقديم والختام لمذيع الحفل، وهو جزء مهم من طقوس الاستماع إلى أم كلثوم.. وحتى عندما كتبت الشركة على تسجيل الأطلال عبارة "حفلة باريس كاملة"، فإنها تناست أن أم كلثوم غنت الأطلال مرتين خلال زيارتها للعاصمة الفرنسية، حيث أحيت حفلين على مسرح الأوليمبيا الشهير يومي 13 و15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وإن كان المستمعون المدققون يعلمون أن الحفل المقصود هو الثاني، المشتهر بـ"حادثة السقوط".
ولا ريب أن اختيار محفل وحيد، لأغنية لها عشرات المحافل، وتقديمه ممنتجا بحذف الارتجالات فائقة الجمال، وتجهيله بخلوه من بيانات المكان والزمان، أضعف مكانة صوت القاهرة عند محبي فن السيدة، والباحثين عن تسجيلاتها المختلفة، التي لا تكاد تعرف تكرارا، وتتعدد فيها التصرفات والارتجالات، ويشتمل بعضها على عزف منفرد "صولو" على آلة العود لمحمد القصبجي، أو القانون لمحمد عبد صالح، أو الكمان لأحمد الحفناوي.. وهو ما يعني أن الشركة تقدم تسجيلاتها لمستمع لا دراية له بفن أم كلثوم على المسرح، ولا بأداء فرقتها الذي بلغ الذروة في الانسجام والإحكام.
حين يدخل أحد الزبائن إلى مقر من مقرات شركة صوت القاهرة، ويطلب أغنية "هجرتك" مثلا، فإن الموظف يمد يده إلى الرف ويتناول التسجيل الوحيد والممنتج لهذه الأغنية ويعطيه للطالب.. ولو كانت الشركة حريصة حقا على نشر تراث أم كلثوم لطبعت عددا من حفلات الأغنية، ولرد الموظف على زبونه قائلا: أي محفل لـ"هجرتك" تريد؟ لدينا محفلها الأول من مسرح حديقة الأزبكية بتاريخ 5 فبراير/ شباط 1959، ولدينا محفلها بنادي الضباط يوم 23 يوليو/ تموز من العام نفسه، وأيضا تسجيلها من جامعة القاهرة في فبراير 1961، وكذلك محفل رائع من الكويت عام 1963، وقريبا سنطبع عددا من المحافل، من بينها المرة الأخيرة التي شدت فيها أم كلثوم بهذه الأغنية، في 5 مارس/ آذار 1964 على مسرح حديقة الأزبكية.. وربما كانت هذه الطريقة في التعامل مع تراث أم كلثوم أنفع للمستمعين والهواة، وأفضل للشركة المحتكرة، حتى بتقديم معايير الربح والكسب المادي.
ربما كانت طباعة الأغاني على شرائط الكاسيت، حيث تزداد الكلفة مع زيادة مدة الشريط، سببا يبدو عند الشركة المنتجة وجيها من الناحية التجارية.. لكن من الغريب أن الشركة ظلت على إهمالها رغم دخولها العصر الرقمي، وطباعة الأعمال على الأقراص المدمجة، التي لن تشتكي من مساحة أغنية تستغرق ساعة أو ساعة ونصفا.. وقد نقلت شركة صوت القاهرة نسخ شرائطها الممنتجة والخالية من أي بيانات عن المكان والزمان إلى "السيديهات"، ما يؤكد سيطرة عقلية الموظفين، وانعدام الإدراك لحجم تراث أم كلثوم.. وفي الوقت الذي اقتصرت فيه الشركة على طباعة قرابة 80 محفلا، يتمتع الهواة بنحو 650 محفلا داخل مصر وخارجها.
لا لوم على ورثة أم كلثوم أن يتنازعوا مع شركة صوت القاهرة، وأن يبحثوا عن منتج آخر يقدر حقوقهم المادية، بعدما اكتفت الشركة بمنحهم 35 ألف جنيه مصري عن كل 3 أشهر، وهو مبلغ زهيد جدا لا يتناسب مع الملايين التي تجنيها الشركة من احتكارها أعمال كوكب الشرق. لكن الأغرب من كل هذا، أن المنتج محسن جابر، حين قرر احتكار تراث أم كلثوم وإصداره على "يوتيوب" من خلال قناة "مزيكا" التي تملكها شركته "عالم الفن"، نقل النسخ نفسها التي تنتجها صوت القاهرة، والتي يغلب على معظمها زمن الـ40 دقيقة، وهي التسجيلات التي اصطلح الهواة على تسميتها بـ"النسخ التجارية".. وهي تسمية دقيقة تبين أن ما يقدمه المتنازعون لا يمثل التراث الحقيقي لأم كلثوم، وأنهم أيضا يستهدفون سوقا من المستمعين الذين لا يعرفون قدر ما خلفته السيدة من تراث ضخم.