في عزلةٍ منزلية، تفرضها إجراءات معطوبة للحدّ من تفشّي كورونا، في بلدٍ منكوبٍ كلبنان، يلجأ الناقد، بين حينٍ وآخر، إلى روايات، عربية وأجنبية، لقراءة أو لإعادة قراءة ما تحتويه من حكايات وانفعالات وأحوال. القراءة مُتنفّسٌ، كمُشاهدة فيلمٍ أو مسلسلٍ تلفزيوني، ومُشاهدة الأخير نادرة. القراءة متعة، فروايات عدّة تنفتح على صُور ولقطاتٍ توهِم قارئها بعوالم سينمائية، يتفنّن ـ أثناء قراءتها وبعد القراءة ـ في ابتكارها. روايات تحرِّض على صُنع فيلمٍ في مخيّلة قارئها، وعلى الذهاب بعيداً في أحلام يقظة، تمنحه مساحة كبيرة لاختراع متخيّلٍ خاصٍّ به.
تعداد الروايات وتسمية كاتبيها يُفيدان قليلاً، فالناقد معنيّ بمتعة القراءة أولاً، وبإمكانية ممارسة دورٍ يُفترض به (الدور) أنْ يكون لغيره. العزلة دافعٌ لتمرينٍ كهذا، والقراءة ـ إنْ تحدث زمن عزلةٍ طاغيةٍ، أو لحظة رخاء مفقود ـ تقول إنّ احتمال صُنع فيلمٍ في مخيّلة قارئ أكبر وأعمق من أيّ احتمالٍ آخر، يُمكن لأيّ فنّ آخر أنْ يُسبِّبه. فلا اللوحة التشكيلية قادرةٌ على فعلٍ كهذا؛ ولا نصّ مسرحيّ يتمكّن من ارتكابه (الفعل)، لامتلاكه، أصلاً، ركائز تَحوّلِه إلى عملٍ على خشبةٍ؛ ولا قصيدة واحدة تسمح لأحدٍ باختراق جماليّاتها، المحصّنة بكلمةٍ أو شكلٍ أو تعبيرٍ أو بوح، لأنّها (القصيدة) سيّدة هذا كلّه، ولا يُمكن لأي صُوَرٍ أنْ تبلغ شيئاً من بهائها.
اختيار أمثلةٍ كهذه منبثقٌ من قِيَمٍ، جمالية وحسّية وسجاليّة، تصنعها لوحة ونصّ مسرحيّ وقصيدة. أمثلةٌ تميّز تلك الجماليات عن فوضى عارمة تضجّ بها لوحات ونصوص وقصائد، تُصنع في أزمنةٍ كثيرة، لكنّها تبقى على هامش الهامش، لشدّة خوائها وسذاجتها وسطحيّتها. الروايات المقصودة تندرج في الأجمل والأهمّ. ففي لبنان والعالم العربيّ، تُكتب روايات جميلة ومهمّة، وإنْ يبقى عددها أقلّ من المُتداول، وكثرة المُتداول غير نافعٍ وغير قادرٍ على إثارة اهتمامٍ به، أو حشريةِ متابعةٍ له.
هذا غير معنيّ بنقدٍ. هذه قراءة شخصيّة بحتة. إحساسٌ ذاتيّ، يجد في الرواية (ليس كلّ الروايات طبعاً) تمريناً على قراءة مختلفة، وعلى إعمال العقل والانفعال معاً في مواكبة مسارات، ومرافقة شخصيات، ومعاينة أحوالٍ، كما في التنبّه إلى خفايا وبواطن واحتيالات. إعمال العقل والانفعال معاً يُشعِل، أحياناً، رغبةً في اختراع صُور سينمائية، تتكامل في مخيّلة الناقد القارئ، بحثاً عن بناءٍ فيلميّ يُشبع بعض حماسةٍ وانجذابٍ إزاء الرواية.
روايات كهذه عديدة. أكثرها إلحاحاً على ابتكار متخيّل سينمائيّ لها، خصوصاً في زمنٍ الوباء اللبناني المتنوّع شكلاً وتخريباً، تتوزّع على 3 أجزاء بعنوان واحد: "بيروت مدينة العالم" (ربيع جابر). تاريخٌ وجغرافيا وعمارة وأناس وأحداث ومسارات ومشاعر وتفاصيل، تروي بناء مدينةٍ، وتسرد تحوّلاتٍ وأحوالاً. حكايةٌ تُقرأ مراراً بشغف باحثٍ عن أمانٍ يقيه شرّ موتٍ، والموت وشرّه يصنعان يوميات عيشٍ في بؤس ورماد. حكايةٌ تبعث على متعة فرجة، تمنحها كلمات وجمل وسرد وبناء وتوليفٌ كتابيّ رائع، عن مدينةٍ تعجز اليوم عن أن تكون مدينة.
تُرى، أي رواية ستُكتب عن بيروت اليوم، فيبتكر قارئها الناقد صُوراً سينمائية لها، وعنها؟