ليس لبلد من بلدان المشرق تاريخٌ موسيقيٌّ حديث يُشبه في تعقيده وتركيبه التاريخ الموسيقي لتركيا. سنة 1930، ألقى زعيمها علمانيّ التوجه غربيّ الهوى، مصطفى كمال أتاتورك، خطبة أمام أعضاء المجلس القومي الموسّع، عرج خلالها على الثقافة والفنون، مُشيراً إلى الموسيقى التركية التقليدية بأنها لا تعكس "الحماس الشعبي" المُتّقد من أجل عصرنة البلاد. اعتُبرت تلك الإشارة بمثابة إيعازٍ رئاسي ضمني، جرى بموجبه منع عزف وغناء وبث أي موسيقى عبر الإذاعة أو التلفزيون لا تخصع لقواعد وجماليات الموسيقى الغربية الأوروبية.
أما الحماس الشعبي الذي تصوّره أتاتورك فقد بدا فاتراً. إذ إن الذائقة الموسيقية لدى القطاعات الأوسع من المجتمع لم تتقبّل مُخرجات الثورة الثقافية، وأخذت تُحسّ تدريجياً بالإغتراب عما يُقدّم إليها من ألوان موسيقية من خلال القنوات الرسمية، ما حدا بمعظم الناس إلى أن يولّفوا هوائيات أجهزة الراديو في بيوتهم نحو بلد عربي تفصل بينه وبينهم مياه البحر الأبيض المتوسط، هو مصر، كان يعيش في تلك الفترة عصراً ذهبياً في الإنتاج الفني المرئي والسمعي.
أسفر الأثر المصري عن توقٍ جماهيري عارم إلى إحياء التراث الموسيقي الشرقي التركي، لينبثق لونٌ غنائي شعبي، أٌطلق عليه اسم "الأرابيسك". حمل بين ثنايا ألحانه وإيقاعاته إلهامات الموسيقى العربية من جهة، ومن جهة أخرى، سمات الموسيقى التقليدية التركية، الحضرية منها والريفية. كان لموسيقى الأرابيسك أيضاً حوامل طبقية سوسيو ــ اقتصادية، تمثّلت في الهجرة الداخلية لأبناء الريف إلى المدن الرئيسية، وعلى رأسها الحاضرة الميتروبوليتية التاريخية والثقافية الرئيسية إسطنبول، وذلك في استجابة لمتطلبات التبدّل في وسائل الإنتاج من الزراعة والعمل في الأرض إلى قطاع الصناعة والخدمات والوظائف في مؤسسات الدولة والشركات الخاصة.
هكذا، صار "الأرابيسك" هو الغناء المعبّر عن المكون الإجتماعي الصاعد. صار صوت آلة الباغلاما الوترية الشبيهة بالبزق، الشائعة في جميع القرى التركية، صوت الريف في المدينة وصوت المدينة في الريف. كما صار للأرابسيك نجوم فنيّون باتوا متألّقين في كل من الأغنية الشعبية والفيلم السينمائي الجماهيري. من بين أولئك النجوم الأشد تألّقاً والأكبر موهبةً وأكثرها تعدداً وتفرّعاً أورهان كنجباي (79 عاماً).
ينحدر كنجباي من أصول تترية تعود لشبه جزيرة القرم. وُلِد في قرية تيكه من بلدية سمسون المطلة على البحر الأسود شمالي البلاد. عُرِف في شبابه كأحد أبرع العازفين على آلة الباغلاما، ثم انخرط في تلحين أغاني الآرابيسك، جامعاً بين الأساليب الموسيقية التركية والعربية والغربية كالجاز والفلامينكو. كما أن وسامة وجهه الذي جمع الرِقّة الطفولية والهيبة الرجولية قد جعلت منه وجهاً غنائياً وسينمائياً بارزاً من بين وجوه حقبة السبعينيات والثمانينيات.
يُعد الألبوم الذي أصدره كنجباي سنة 1973 بعنوان "تبّاً لهذه الدنيا"، الذي يحمل عنوان واحدة من أشهر أغانيه المميزة بُمقدمتها ذات طابع الفلامنكو، من بين الإصدارات الأيقونية لأغنية الأرابيسك التركية. ليس فقط لجهة الملامح الموسيقية الخاصة المحددة لذلك اللون الغنائي، وإنما أيضاً المضامين الثقافية والاجتماعية التي يحملها الأرابيسك إلى جمهوره. إذ غالباً ما يعكس مشاعر الوحدة والغربة في خضم الحياة العصرية المادية المعقدة، إضافة إلى الإحساس بالظلم والغبن جراء قسوة الأقدار واستحالة وصال الأحبة.
لعل أغنية "المتاعب متاعبي أنا" Dertler Benim Olsun، ثامنة تراكات الألبوم، من بين أغاني الأرابيسك الأكثر تميّزاً ودلالة ليس فقط على حُسن صنعة كنجباي لجهة التلحين والتوزيع والقولبة وحسب، وإنما أيضاً تغلغل مؤثرات الطربية العربية في أغنية الأرابيسك التركية. يتجلى ذلك في طبيعة المقامات والإيقاعات المستخدمة، علاوة على أساليب الأداء المتّبعة على مدار الدقائق التي تزيد على الأربعة بنصف دقيقة ونيّف. تعد الأغنية من بين الأغاني الشرقية القليلة التي يتساوى فيها دور كل من الغناء والموسيقى الآلية في رواية الأحداث، لا بل إن الموسيقى تبدو الحامل الرئيسي لها، كأني بالغناء وقد حلّ في وعاء موسيقي تغمره التوزيعات الآلية من وتريات ووصْلات منفردة تارة للقانون، وتارة للباغلاما وتارة للنفخ والوتريات.
تُستهلّ الأغنية بمقدمة آلية على إيقاع رباعي يُشبه "البلدي" الشائع في مصر والشام، إبتداءً بضربتي دم متتاليتين وانتهاءً باستطالة ضربة التك الأخيرة. تسانده الوتريات على مستوى منخفض، ممهدةً دخول آلة القانون لتستعرض لحن الكوبليه، صعوداً على مقام البياتي ثم هبوطاً عند مقام الكرد. تبدأ محاورة بين القانون وآلة الأوبوا النفخية الغربية الشبيهة بالمزمار تأخذ المسار إلى المستقر على النهاوند.
كما تتوسط الأغنية قنطرة موسيقية حيوية راقصة، طابعها العربي بادٍ للسماع، عمادها الكمانات، تُنفِّذ بصورة جماعية جملاً لحنية حوارية تعتمد الانتقالات المقامية المباغتة بغية إحداث الأثر الحسّي الطربي. تُمهّد آلة الباغلاما لعودة المذهب والغناء، من خلال مقطع انتقالي خالي الإيقاع، ترسم له الكمانات خلفية درامية. لأجلها، تُستخدم تقنية الترعيد بواسطة القوس، أو التريمولو. أما المذهب، فنبضه الموسيقي إيقاع التانغو اللاتيني، مصحوباً بطرق الكاستانييت، وهي آلة إيقاعية على شكل أصداف مصنوعة من خشب تُطرَق بعضها ببعض باستعمال أصابع اليد. إذ إن المقابلة بين الإيقاع اللاتيني الهادئ والشرقي ذي الطابع الحيوي الراقص من مميزات الأرابيسك، الذي مثّل على الدوام بوتقة موسيقية، تُصهَر فيها أنواع مختلفة من الأمزجة والألوان.
يبقى أكثر ما يُميّز أغنية كنجباي Dertler Benim Olsun هو الكثافة الشكلية والرشاقة في الانتقال بين أجزاء الأغنية المختلفة. ثمة تجنبّ خلّاق للتكرار، وذلك على غير عادة الأغاني الجماهيرية في الشرق، كما تُساهم كلّ من الوثبات المباغتة ما بين المقاطع الآلية والغنائية، والانتقالات المقامية السلسة في مداعبة الحواس وإبقاء الأذن على حال ترقّب دائم، ما يجعل الاستماع تجربة سابقة لزمانها.