يبدو أن الشهرة الواسعة التي حققتها بعض الأغنيات "التاريخية" عن القضية الفلسطينية كانت كالشمس التي يطغى نورها فتختفي من حولها كل نجوم السماء. الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ارتبطت وجدانياً بعدد محدود جداً من أغنيات فلسطين، وحتى الأجيال الجديدة من الشباب ورواد مواقع التواصل يعرفون جيداً "أصبح عندي الآن بندقية" (أم كلثوم) و"أخي جاوز الظالمون المدى" (محمد عبد الوهاب) و"لأجلك يا مدينة الصلاة" (فيروز).
لكن من النادر أن تجد من سمع بأغنيات لفلسطين تغنى بها عباس البليدي أو كارم محمود أو محمد قنديل. إصرار وسائل الإعلام الإذاعية والتلفزيونية على تكرار عدد محدود من الأغنيات التي تترنم بالمأساة الفلسطينية كان سبباً رئيساً لنسيان كثير من الأعمال الغنائية، التي شدا بها عدد من أصحاب الأصوات المهمة في تاريخنا الغنائي المعاصر.
غنت سعاد محمد عدة أغنيات لفلسطين، ربما كانت أوفرها حظا قصيدة "يا قدس يا حبيبة السماء"، التي صاغها الشاعر محمود حسن إسماعيل ووضع لحنها رياض السنباطي. جاءت القصيدة في سياق الزلزال الذي أحدثه حريق المسجد الأقصى في أغسطس/آب عام 1969.
تميزت القصيدة باستهلال لافت، واكبه السنباطي باستهلال تلحيني يغاير أسلوبه المستقر في القصائد الكلثومية، فبعد مقدمة تتسم بالجلال الذي تمنحه الوتريات، يبدأ الغناء بأدليب: "وعادت الطيور في المساء.. فلم تجد في القبة الضياء.. ولا صدى الترتيل والدعاء.. فهزت الأوتار بالنداء.. يا قدس يا حبيبة السماء". وهنا يتحول اللحن إلى الإيقاع، ومن دون مقدمات، تدخل المجموعة لتردد: "قومي إلى الصلاة وباركي الحياة".
تتمثل الفكرة الأساسية بهذه القصيدة في مخاطبة مدينة القدس، كي تنهض من كبوتها، لتواصل الصلاة، في المساجد والكنائس، كي تقدر على مواجهة البغي والعدوان، لذا كانت جملة "قومي إلى الصلاة" هي جملة التكرار الذي يكثر دورانه خلال النص، بصوت المجموعة غالباً، وبصوت المطربة أحيانا، وبالتبادل بين المجموعة والمطربة في الخواتيم.
تغني سعاد محمد: "لا توقفي الدعاء للرحمن.. مهما لقيت من أذى الشيطان.. ردي عليه إثمه وقومي.. وواصلي الحديث للنجوم.. عن بأسك الصامد من قديم.. في وجه كل غادر أثيم". يشير الدكتور سعد أغا القلعة إلى بعض جوانب الإبداع في لحن الجزء الأخير من القصيدة، فيقول: تكرر المجموعة كلمة "الصلاة" بعد المطربة بأسلوب معمول به في الكنائس، كأنما هو دمج للحني الصلاة بين المسجد والكنيسة".
تبدو أغنية "يا قدس يا حبيبة السماء" أوسع انتشاراً -رغم كونها فصيحة- من أغنية "القطار" أو "يا فلسطين" العامية التي كتبها بيرم التونسي ولحنها أيضا رياض السنباطي، بالرغم من أن الأخيرة أسبق من الأولى بأكثر من عقدين كاملين، إذ كانت ضمن أغنيات فيلم "فتاة من فلسطين" الذي أنتجته عزيزة أمير عقب نكبة 1948 مباشرة، ببطولة مشتركة بين سعاد محمد ومخرج الفيلم محمود ذو الفقار.
صاغ بيرم التونسي كلماته في صورة ديالوغ بين المجموعة وبين سعاد محمد: "إيش صابك يا صبية؟ وين رايحة ومنين جاية؟ يا فلسطين فارقناكي.. تبكي عليكى البواكي.. ياللي حييت في هواكي.. وفيكِ فتحت عنيا.. فارقنا الأرض الخضرة.. تشعل فيها نار حمرة.. حسرة عليها يا حسرة.. ويا ويل الصهيونية.. يا حسرة على هالوادي.. جاروا عليه الأعادي.. أهله بايته بتنادي.. ع الأمة العربية". لحن بسيط سهل، لكنه مطرب ومؤثر اتساقاً مع المسار الدرامي.
وعقب العدوان الثلاثي عام 1956، غنى محمد قنديل: "غزة.. غزة.. إحنا فداها، أرض العزة ما أغلاها، غزة غزة ما حننساها.. كلمتنا يا استعمار.. لا تدويل ولا إسرائيل.. غزة غزة للأحرار.. لا لعدو ولا لدخيل، من كلمات حسين طنطاوي وألحان أحمد صدقي. كما غنى قنديل من كلمات بيرم التونسي وألحان عزت الجاهلي: "يا غايب وغيابك طال.. سايق في براري وجبال.. ارجع ومعاك الأشبال.. واطرد منها المغتصبين.. شعبك راجع يا فلسطين". وأيضا غنى "طير يا طاير"، من كلمات محمد البحطيطي، وألحان عبد العظيم عبد الحق، يقول مطلعها: طير وطاير في العلالي.. حط عندي ع الحدود.. قلت جاي منين يا غالي؟ قالي من أرض الجدود".
ومن أهم الأغنيات المنسية لقضية فلسطين، ذلك النشيد الحماسي الذي لحنه وغناه المطرب عباس البليدي: "فلسطين يا حرة يا أرض السلام.. على كل عاد ترابك حرام.. لمجدك يا غاليا تهون الحياة.. ونرجع ديارنا أعزة كرام". ومنها كذلك، قصيدة مؤثرة غنتها وردة الجزائرية، من كلمات علي مهدي وألحان عبد العظيم محمد، تصور جانبا من مجزة دير ياسين. تقول: "تلاتة إخوة من دير ياسين... في اليوم المشؤوم.. بالغدر المرسوم.. دخل الغاصب بيتهم.. ساقهم لنهايتهم.. الأم شافت أولادها.. للموت بيتاخدوا قصادها.. فضلت تولول وتنادي.. أطفالي.. روحي.. أولادي.. سيبهم.. قتلوا الأم.. قتلوا ولادها".
بعد 13 عاما من غنائه قصيدة "أخي جاوز الظالمون المدى"، وتحديداً عام 1961، لحن محمد عبد الوهاب قصيدة جديدة بعنوان "فلسطين" تأليف الشاعر صالح جودت، يقول مطلعها: "مهد البطولات أرض العرب.. أرض العلا من قديم الحقب.. مستذكي الثأر نار الدماء.. هيا نشق إليه اللهب.. زاحفين عائدين للحما.. رافعين صوتنا إلى السما.. لبت فلســطين حر النداء.. هيا ولبيك أخت العرب".
لكن موسيقار الأجيال كان قد اعتزل الغناء، فوضع لحناً للغناء الجماعي، ليس لمطرب منفرد. وفي احتفال جماهيري بذكرى إذاعة صوت العرب، قدم عبد الوهاب لغناء النشيد بنفسه، واعتذر عن الغناء، رافضاً الصياح الجماهيري المطالب بسماع النشيد منه.
وكل هذه الأغنيات ليست إلا مجرد أمثلة، فالغناء لفلسطين باب واسع يصعب حصره وتتبعه، وقد بلغ ذروة كثافته خلال الفترة بين عامي 1956 و1970، ما يعني أن التوجه القومي الناصري كان له أثر كبير في اتساع مساحة الغناء المتضامن مع القضية الفلسطينية. ويمكن أن يتذكر المستمع من هذه الحقبة أغنيات: "هناك وراء الحدود" لكارم محمود، و"إلى طريق النصر" لعبد العزيز محمود، و"صوت فلسطين" لعصمت عبد العليم، و"بإذن الله يا فلسطين" للور دكاش، و"بلدي الغالية" لحورية حسن، و"لحيفا راجعين" لشريفة فاضل، و"ولا في قلبي ولا عنيا إلا فلسطين" لسيد مكاوي.
كما أنتجت الإذاعة والتلفزيون في مصر عدداً من الأوبريتات المخصصة لقضية فلسطين، ومن أمثلتها التي لم تنل حقها من الشهرة والانتشار أوبريت "فلسطين" التي اشترك في غنائها سهير فهمي وكارم محمود وفايدة كامل، بكلمات مازن النقيب وألحان وجيه بدرخان.
الأمثلة السابقة تنتمي كلها إلى الغناء المصري. وبالطبع، فإن الدائرة تتسع كثيراً حين نتتبع الأغنيات التي لم تحظ بشهرة كافية في مختلف البلاد العربية، لا سيما في سورية ولبنان، لنجد عشرات الأغنيات لحليم الرومي أو وديع الصافي أو فهد بلان، ومن المهم أيضا الانتباه إلى تلك الأغنيات التي يأتي فيها ذكر فلسطين، من دون أن تكون الأغنية مخصصة كلها للقضية، وهو ما نجده في كثير من أغنيات حقبة الستينيات، في ذروة المد القومي العروبي والمعارك الناصرية، وهذه الأغنيات تتفاوت في حظوظها من الانتشار، فبعضها جاء ضمن مناسبات لم تعد تهم أكثر الجماهير العربية. لكن من المؤكد أن تسجيلات الأغاني كسجلات التاريخ، تثبت أن فلسطين شغلت دائما الموقع الأول في الوجدان العربي.