أم كلثوم: سيرة أخرى خطّها الصوت

03 فبراير 2022
رحلت في مثل هذا اليوم من عام 1975(غاما ــ كيستون/Getty)
+ الخط -

لعلّ أكثر عشاق السيدة أم كلثوم (1898 - 1975)، التي تصادف ذكرى رحيلها السابعة والأربعين اليوم، يغفل أنّ تمام المنحة الكلثومية كان بتوقيت ظهورها، الذي تزامن مع عصر التسجيل، وقدرة الإنسان على "الإمساك بالصوت". ولو ظهرت مطربة العرب الكبرى قبل عصر الأسطوانة والراديو، لكانت اليوم مجرد اسم يذكره بعض المؤرخين كما تُذكر سلامة وعزة الميلاء وألمظ.

لم نكن لندرك أم كلثوم لولا التسجيلات، وهذه الأخيرة تكشف عن مسيرة بقيت متصلة ستة عقود من دون انقطاع، لم تهتز خلالها مكانة المطربة الكبرى يوماً. وهذا بذاته أقرب إلى أن يكون إعجازاً، يتجاوز طاقة البشر وقدراتهم ولو كانت استثنائية. تقنية التسجيل أمسكت لنا صوت أم كلثوم من العشرينيات حتى السبعينيات. تطور صوتها، واختلف من عقد إلى آخر، لكنها ظلت متربعة على العرش، لا يطاولها أحد، وظل صوتها في تغيره يعطي وقعاً متجدداً، ويعوض ما يعتريه من نقص بجماليات تبقيه على حالة الكمال، فكأن حنجرتها أوقفت الزمن، وكأن فنها لا يأبه لمرور السنوات والعقود.

قبل منتصف العشرينيات، استقرت أم كلثوم في القاهرة، بعدما أنهت مرحلة التأسيس في قريتها وما يجاورها من أرياف الدلتا. كان انبهار كل من يسمعها من أهل الفن وشيوخ النغم، أكبر دافع لتنفيذ القرار الصعب بترك القرية. وفي القاهرة، بدأت مسيرة صعودها، الذي لا قبل لأحد بإيقافه أو منافسته.

أدركت النخب الثقافية والفنية أن الصوت القادم من ريف الدقهلية ليس كالأصوات، وأن الفتاة القروية تغني غناء فيه من القوة والجلال والإحكام والفصاحة ما لا يجتمع في أصوات كبيرات الطرب المعاصرات. انحاز الشيخ مصطفى عبد الرازق علناً إلى الفتاة المعجزة، ولم تمنعه مكانته الأزهرية من أن يكتب مشيداً بصوتها وطريقتها، بل استخدم نفوذه المعنوي لإقناع والدها بقبول التخت الموسيقي.

مثّل النصف الثاني من عقد العشرينيات مرحلة تثبيت الأقدام في القاهرة، وخلاله تجاوزت أم كلثوم عقبات التثبيت إلى مطالب الإثبات... إثبات التفوق والأولية والتجاوز، وتم لها كل ذلك عبر ألحان ثلاثة صائغين: أبو العلا محمد، ومحمد القصبجي، وأحمد صبري النجريدي.

ألحان أبو العلا كانت سبباً لتعرّف أم كلثوم بأحمد رامي، بعدما غنت قصيدته "الصب تفضحه عيونه"... ومنحت ألحانه المكرسة للنصوص الفصيحة أم كلثوم سمعة مبكرة، لرقي اختياراتها، وقدرتها على الإطراب بعوالي الشعر، وخلدت قصائد: "وحقك أنت المنى والطلب"، و"أفديه إن حفظ الهوى"، و"أمانا أيها القمر المطل".

كان دور القصبجي في الانطلاقة الكلثومية كبيرا، وكان صاحب أكبر عدد من ألحان هذه الانطلاقة. وجد الرجل في صوتها كل ما يريد، وخلال سنوات العشرينيات، قدم لها قرابة 25 لحناً، كما كان دوره مهماً في انفرادها بالمكانة الأولى دون منازع ولا مكابر، بعدما قدم لها أنجح أعمالها شعبية في هذه الفترة متمثلة في مونولوغ "إن كنت أسامح". وبينما ظل القصبجي بجوار أم كلثوم بألحانه وبرعايته، اقتصر دور النجريدي على سنوات العشرينيات، لحن خلالها عدداً من الطقاطيق وبعض القصائد، قبل أن ينزوي ويختفي إلى الأبد، من دون أن يعلم عنه أحد أي شيء، ولا حتى تاريخ وفاته... وقد ضمت قائمة ألحانه للمطربة الصاعدة عدة أعمال لا تنسى: "يا كروان والنبي سلم"، و"خايف يكون حبك ليا"، و"ما لي فتنت بلحظك الفتاك"، وأيضاً عبر ألحانه كانت أغنية أم كلثوم "الخلاعة والدلاعة مذهبي".

حين دخل عقد الثلاثينيات، دخل صوت أم كلثوم طوراً جديداً، تخلص فيه من تلك الحدة التي شابت كثيراً من أغانيها السابقة. أصبح صوتها قطعة من الألماس النقي الفريد، لا يماثله صوت في قوته أو بريقه أو ليونته. لم تكن بحاجة إلى إثبات أي شيء، إلا القدرة على الارتفاع فوق القواعد، ورفع بنائها الذي رسخ. وشهدت السنوات الأولى لهذا العقد بدء التعاون مع الشيخ زكريا أحمد، الذي صار المصدر الثاني مع القصبجي لصياغة الألحان لـ"كوكب الشرق".

عبر صوت أم كلثوم، انطلق القصبجي في رحلة تطوير المونولوغ، وقدم عدداً من آياته المبهرة، وفي المقابل، بدأ زكريا مشروعه في تطوير "الطقطوقة"، وفق أسلوبه الكلاسيكي المتحفظ. لكن عقد الثلاثينيات شهد مساهمة مهمة لداود حسني، من خلال قالب الدور؛ فقد أهدى أم كلثوم عشرة من نفائسة، ومع الأدوار التسعة التي لحنها زكريا، يمكن أن نسمي "الثلاثينيات" في المسيرة الكلثومية بعقد الأدوار، إذ انتهت علاقة الكوكب بهذا القالب في عام 1937، بعدما غنت دور زكريا "عادت ليالي الهنا".

وشهد النصف الثاني من هذا العقد حدثاً بالغ الأهمية، عظيم الأثر في المسيرة الكلثومية؛ إذ انضم رياض السنباطي إلى فريق ملحني السيدة. صار ثلاثة من أهم أربعة ملحنين في مصر ضمن هيمنة المطربة الكبرى. أما الرابع: محمد عبد الوهاب، فبقي منتظراً لحظة تعاونه مع أم كلثوم حتى عام 1964. وبألحان العمالقة الثلاثة، امتد النفوذ الكلثومي إلى كل بقعة من أرض العرب، فلا يكاد يمر شهر من دون عمل غنائي جديد. وبتنوع الألحان، والاختلاف الكبير بين الأساليب التلحينية للقصبجي وزكريا والسنباطي، أكدت أم كلثوم أن صوتها فوق الألحان والملحنين، وأنها بهذا الصوت وهذا الأداء تمنح اللحن روحاً لا ينالها من صوت آخر.

لم يزد النضج صوت أم كلثوم إلا ألقاً وتوهجاً. تضاعفت قدراتها التعبيرية، وزادت خبرتها بفنون الأداء، وكيفية الهيمنة على الجمهور المتلهف. شهد عقد الأربعينيات تطورات دراماتيكية. بلغ القصبجي بمشروعه "المونولجي" ذروة لا تدرك، حين لحن كلمات "رق الحبيب"؛ فصيرها أعجوبة من أعاجيب القرن العشرين. لكنه مع بلوغ الذروة، توقف توقفاً يكاد يكون فجائياً. كانت "رق الحبيب" منتهاه. وبعد خروجه من الفريق التلحيني، وبقائه عازفاً للعود خلف أم كلثوم، صارت الألحان قسمة بين زكريا والسنباطي. فأما زكريا، فشكل مع بيرم التونسي جناحاً يقابل جناح السنباطي ورامي، وبالجناحين طارت أم كلثوم إلى سماوات فنية بعيدة. في الأربعينيات، قدم زكريا أعظم صياغاته ذات الطابع المحفلي المسرحي: "الآهات"، و"حبيبي يسعد أوقاته"، و"الأمل"، و"أنا في انتظارك"، و"أهل الهوى"، و"الأولة في الغرام"، و"حلم".

كما قدم باقة من أعظم أغنيات الأفلام، بلغت ذروتها في فيلم "سلامة"، حين استمعت الجماهير العربية إلى "غني لي شوي شوي"، و"قل لي ولا تخبيش يا زين"، ثم فيلم "فاطمة"، الذي تضمن "الورد جميل" و"نصرة قوية" و"جمال الدنيا". لكنّ السنوات الأخيرة في هذا العقد، شهدت الخلاف المؤسف بين زكريا وأم كلثوم.

خرج شيخ الملحنين من الفريق الكلثومي، وخسر العرب ألحان الرجل الذي يعرف كيف يفجر الطرب من أي نص يوضع أمامه. وبهذا الحدث بدأت مرحلة الاحتكار السنباطي لصوت سيدة الطرب. خلال الأربعينيات، واصل رياض بدائعه النغمية، ودخل في تحدي "المونولوغ"؛ فلم يرض بأقل من "غلبت أصالح" لتكون مقابلاً موضوعياً لـ"رق الحبيب".

وأما "القصائد"، فأكد فيها سيادته بعدد من الشواهق الخالدة: "سلوا قلبي"، و"نهج البردة"، و"ولد الهدى"، و"النيل". كان غناء أم كلثوم لهذه القصائد مهيباً. وكان رد فعل الجماهير العربية عليها بالغ التقدير والاحترام والإعجاب. خلال عام ونصف قبيل ثورة يوليو/ تموز 1952، واصلت أم كلثوم إدهاش العرب، معتمدة اعتمادا كاملا على رياض السنباطي، الذي فاضت قريحته بعدد من أعظم ألحان القصائد العربية: "رباعيات الخيام"، و"إلى عرفات الله"، و"مصر تتحدث عن نفسها"... ووضع في رصيد مونولوجاته سبيكة نفيسة "جددت حبك ليه".

ثم قامت الثورة، وانتهى النظام الملكي، وبدأت حقبة جديدة في تاريخ مصر وتاريخ أم كلثوم. أدرك ضباط يوليو أهمية الفن عموماً، وأم كلثوم على وجه الخصوص... ألغى عبد الناصر قراراً غبياً استمر أياماً بمنع صوت كوكب الغناء من الإذاعة بحجة أنها من رموز "العهد البائد". وانطلقت أم كلثوم تواصل زحفها الفني ممهوراً بتوقيع السنباطي: "مصر التي في خاطري"، و"يا ظالمني"، و"بأبي وروحي"، و"السودان"، و"ذكريات"، و"شمس الأصيل"، و"دليلي احتار"، و"عودت عيني"، و"قصة الأمس"، و"ثورة الشك"...

وشهدت الخمسينيات أحداثاً وطنية وسياسية كبيرة، على رأسها العدوان الثلاثي عام 1956، والوحدة مع سورية عام 1958، وكانت أغنياتها الوطنية سلاحاً معنوياً جباراً بيد عبد الناصر لحشد تأييد الجماهير العربية.

احتفظت أم كلثوم خلال الخمسينيات بعنفوان صوتها. بدت وكأنها أوقفت عوامل الزمن، يختلف صوتها فيعطي مذاقاً مغايراً لا يشعر معه المستمع بنقص. وبأعمالها المتواصلة، وبانفعالها الفني مع قضايا مصر والعرب، ومع تجسيدها لمعاني الحب، أصبحت تمثل أعظم مظهر لوحدة العرب، وأقوى صورة لاجتماعهم. حين دخل عقد الستينيات، كانت أم كلثوم قد أتمت 60 عاماً. لم تكف السيدة عن إدهاش العرب، أدخلت الملحن الجديد بليغ حمدي إلى قائمة المتعاونين. وضغطت عليها هواجس التجديد وحيازة الرضا الشعبي، ليس لفئة من الجماهير، بل لكلّ الجماهير. وكانت الستينيات أيضاً محطة لقائها بعبد الوهاب بعد انتظار طويل، وبلحن غير معتاد، هو "أنت عمري". لم ترضَ عنه القلة صاحبة المزاج التقليدي، لكنّ الجماهير العربية تلقته بحفاوة استثنائية. التقاء القمتين أسعد الأغلبية الساحقة.

وفي الستينيات، مرت علاقة أم كلثوم بالسنباطي بما يشبه جفوة غير عميقة، لكنّ السنباطي عاد بـ"الأطلال"، التي نزلت على العرب كأنّها طوفان، كان الذهول سيد الموقف. وبعد هزيمة يونيو/ حزيران عام 1967 بأسابيع قليلة، بدأت أم كلثوم رحلات ما يعرف بـ"المجهود الحربي"، أحيت محافل تاريخية كبيرة، في مقدمها محفل الأوليمبيا في باريس. هناك، بدت السيدة كأنّها جيش جرار يعمل لخدمة القضية العربية... ذُهل الفرنسيون من حجم التجاوب الجماهيري، وتضاعفت دهشتهم من قدرة زعيمة الطرب على امتلاك الجماهير، وفرض هيمنة صوتها وهي في هذه السن. وتواصلت الرحلات: المغرب، الكويت، تونس، ليبيا، السودان... وتميزت كلّ زيارات أم كلثوم الخارجية باستقبالات رسمية وشعبية تفوق استقبالات الملوك والرؤساء.

لا يجادل أحد في أنّ وهناً واضحاً قد طاول صوت أم كلثوم في السنوات الأخيرة من عقد الستينيات، وبدايات عقد السبعينيات، والحقيقة أنّ معجزة الصوت الكلثومي قد أخرت ظهور هذا الوهن 20 عاماً. لكنّ تقدم السنّ تحالف مع رحيل عبد الناصر، وكذلك مع ممارسات جيهان، قرينة الرئيس أنور السادات، فزادت الوطأة البدنية والنفسية على السيدة الكبيرة... أصبح سؤال الاعتزال مطروحاً ومشروعاً.. لكن يمكن للسائل الذي يريد إجابة دقيقة أن يضع نفسه مكان السيدة، ليرى بعينيه ويسمع بأذنيه أن تذاكر محافلها تنفد فور صدورها، وأن إدراك مقعد في ليلة تحييها "الست" قد ازداد صعوبة، وأنّ العرب ما زالوا يأتون بالطائرات لحضور حفلاتها... هؤلاء هم أصحاب القرار. ورغم الوهن، كان صوت أم كلثوم في مرحلته الأخيرة يتزين بسحر خاص. سحر العتق والقدم والاستمرارية. ومع الضعف والمرض، قدمت عدداً من المطولات... للموجي وبليغ حمدي وعبد الوهاب.

وادخر لها رفيق الرحلة القديم رياض السنباطي لحنه الصوفي الخالد "القلب يعشق" (بيرم التونسي)، ثم جدد ثقته بقدراتها في قصيدته الكبيرة "من أجل عينيك" (عبد الله الفيصل آل سعود)، التي بدت خلالها أم كلثوم وكأنّها تعافت مما أصابها أو عادت 15 عاماً إلى الوراء. في يناير/ كانون الثاني من عام 1973، أحيت أم كلثوم آخر محافلها. ثم منعها المرض من لقاء الجماهير... وبعد سنتين، رحلت السيدة؛ فجعل الشعب المصري من جنازتها أكبر محافلها.
 

المساهمون