أمين المسعدي (1/ 3): كان هناك غليان سينمائي عام 2009

09 اغسطس 2023
أمين المسعدي: هندسة الكنائس مفيدة في فهم اختلاف الإضاءة (العربي الجديد)
+ الخط -

 

ليس صدفةً أن يكون التونسي أمين المسعدي (1980)، اليوم، الأبرز موهبةً ووعداً في إدارة التصوير، عربياً، رغم أنّه لم يدخل السينما بشكل محترف إلا منذ عقدٍ ونصف عقد. التطلّب في اختيار المشاريع، والحرص على روح المجازفة، والبحث في فلسفة الصورة بدل الانبهار بالتقنية، والرهان على تراكم التحدّيات الجمالية على المدى الطويل، بدل الانسياق وراء إغراءات المال، عوامل أساسية تُفسّر مساراً لامعاً، قاده إلى الاشتغال في ثنائيّ رابح ومُلهم مع المخرج الموهوب، وفائق التفرّد، علاء الدين سليم، في فيلمي "آخر واحد فينا" (2016) و"طلامس" (2019)، الجسم الفيلمي غير المُحدّد، الذي سحر المتتبّعين في مشارق الأرض ومغاربها براديكاليته وجرأته الشكلية (هناك فيلم ثالث في طور التصوير، بعنوان "أغورا").

خاض المسعدي أيضاً تجربة مهمّة في المغرب، باشتغاله مع نبيل عيّوش مُصوّراً "الزّين لي فيك" (2015)، قبل أنْ يضيء فيلمين من أجمل ما أخرج حكيم بلعباس في السنوات الأخيرة: "عرق الشتا" (2017) و"لو كان يطيحو لحيوط" (2022)، في مزج خلّاقٍ بين حساسيتي التوثيق والتخييل، من دون نسيان اضطلاعه بصورة فيلمين وثائقيين بديعين من بقع الضوء النادرة، التي جاد بها "صندوق دعم إنتاج الأفلام حول الثقافة الصحراوية والحسانية" في المغرب: "لعزيب" (2022) لجواد بابيلي، و"صرّة الصيف" (2022) لسالم بلال. إضافة إلى عمله المثير للاهتمام، برصانته التعبيرية، كمدير تصوير لـ"آخر زيارة" (2019) للسعودي عبد المحسن الضبعان.

لهذا كلّه، التقت "العربي الجديد" أمين المسعدي في حوار عن شغفه بالسينما والصورة، وعن الدراسة في روما، وعودته إلى تونس مع بوادر الثورة ومعركة الائتلاف من أجل "سينما حرّة"، التي مهّدت لانبثاق موجة جديدة في السينما التونسية، وعن رؤيته لفلسفة إضاءة الأفلام، وحركة الكاميرا، وعدد محاولات التصوير، وعن التجارب التي خاضها في تونس والمغرب، ووجهة نظره بخصوص العراقيل التي تحول دون إقلاع السينما في البلدين، ورؤيته لتفتّق جيل شبابي واعد، في سياق الانفتاح الذي تعرفه السينما والثقافة في السعودية.

 

(*) متى بدأت علاقتك بالسينما، وكيف تحوّلت إلى سينيفيليا وشغف بالصورة؟

عندما كنت في الثانوية، احتككت بـ"نادي السينما" بحكم نشاط "الجامعة التونسية لنوادي السينما" و"الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة". كنت أدرس، وفي نهاية الأسبوع أشاهد فيلماً، وأحضر تكوينات في السينما. كان أبي يشتغل في التأمين، لكنّه كان شيوعياً، ويعرف أصدقاء في السينما يتكلّف بتأمين أفلامهم. لذلك، كانت السينما حاضرة في حياتي اليومية، رغم أنّ والدي كان ينصحني دائماً بإكمال دراستي. التقطت صوراً كثيرة، وكنت أتوفّر على مختبر تحميض في المنزل. بعد عرض "المومياء" ونقاشه في "نادي السينما"، تعرّفت على شخصٍ فارقٍ في مسيرتي (كمال العريضي ـ المحرّر)، عرض عليّ تمريناً في تصويرٍ إعلان تلفزيوني في فترة العطلة. قبلت العرض. أمضيت 3 أيام في بلاتوه التصوير.

منذ تلك اللحظة، بدأت علاقتي الوطيدة معه، التي دامت نحو 10 سنوات، اشتغلت فيها مساعد مصوّر ثان في أفلام طويلة. اضطلع هو بمهمّة ضابط العدسة (Pointeur)، وكنت مساعده في أفلام تونسية كثيرة، أولها "خرمة" للجيلاني السعدي. لم أكن درست السينما آنذاك. تعلمت كلّ شيء في الميدان، متسلّحاً بالشغف وروح السينيفيليا. عام 2002، قررت دراسة السينما.

 

(*) بعدها جاءت فترة الدراسة في روما، حيث احتككت بالمدرسة الإيطالية في التصوير، التي يعتبرها البعض الأهم من حيث تأثيرها، حتى في هوليوود. تتلمذْتَ على فرانكو دي جاكومو وطارق بن عبد الله، مدير التصوير التونسي المعروف. أتشبه علاقتك بهما علاقتك بالمعلم الأول، أم تختلف عنها؟

العلاقة مختلفة، لأنّي قرّرت تحصيل المعارف والمهارات التقنية في بعدها الأكاديمي أيضاً. التجربة مهمة. لكنْ، أنْ تعي الأشياء في عمقها العلمي يضيف إليك الكثير. تجربة الدراسة في روما كانت بطعم خاص. السفر والعيش في بلد مختلف أخرجني من منطقة الراحة التي اعتدتها في تونس، حيث كنت أشتغل في السينما، وأحصل على مال، لكن من دون إمكانيات زيارة معارض تشكيلية ومتاحف مثلاً. درست عند فرانكو دي جاكومو، وطارق، الذي شجّعني كثيراً. لم أكن متمكّناً من اللغة في البداية، لذلك لم يكن اختيار المدرسة الإيطالية بديهياً. لكنّ تميّز هذه الأخيرة دفعني إلى تفضيلها على المدرسة الفرنسية.

مثلاً، كنتُ أحب فيتّوريو ستورارو وتونينو ديلّي كولّي. عندما تتفرّج على اتجاه الواقعية الجديدة، وأفلام فيلّيني، تجتذبك المدرسة الإيطالية أكثر من الفرنسية. أما المدرسة الأميركية، فمغايرة أكاديمياً، وتختلف جذرياً عن المدارس الأوروبية، وتستلزم دفع نقودٍ لمدارس خاصة. ذهبت إلى روما عام 2002، بنيّة الدراسة لـ3 أعوام، لكنّي عدت عام 2009. أي أنّي أمضيت 7 أعوام في إيطاليا. اشتغلت خلالها في مطعمٍ، ولم يكن الاندماج سهلاً لأنّ وجودي هناك تزامن مع فترة حكم برلسكوني. تشقى وتجوع حتّى في لحظات عصيبة، لكنّك شيئاً فشيئاً تتعلّم كيف توازن أحاسيسك. وجود أصدقاء كثيرين في المدرسة ساعدني. أهمّ الإضافات التي أتاحتها لي فترة الدراسة التعرّف إلى أشخاص في بداياتهم، مُغرمين مثلي بالسينما، ما مكّنني من تجربة أشياء لم أكن أقوم بها في تونس، في ظلّ تحمّلي مسؤولية مهنية. صوّرت أفلاماً قصيرة، واشتغلت في أول فيلم طويل مدير تصوير، وهذا لا يعرفه أحد، في ظروفٍ جدّ مستقلة، مباشرة بعد انتهائي من الدراسة. بعدها، اشتغلت في تجارب أكثر احترافية، لم تكن سهلة.

 

 

(*) هل كان اتّخاذ قرار العودة إلى تونس سهلاً وطبيعياً، أم صعباً؟

عندما سافرت إلى إيطاليا، لم تكن نيّتي البقاء، بل العكس، كنت أنوي إنهاء الدراسة واكتساب تجربة، ثم أعود إلى تونس. أؤمن أنّ الفنان ينبغي دائماً أنْ يبدأ في محيطه القريب، ليستطيع الخروج إلى آفاق أخرى أبعد. صعبٌ أنْ تبدع في إيطاليا، وسط ثقافة لا تعرفها جيداً. أنْ تكون مدير تصوير في أفلام إيطالية ليس سهلاً أبداً. هناك اختلافات ثقافية وأساليب تعامل لا تلمّ بها، خاصة أنّ المدرسة الإيطالية متطوّرة كثيراً في مجال الصورة.

من الأشياء التي فاجأتني، أنّ طارق نصحني ذات يوم بألاّ أذهب إلى المدرسة، وأن أتوجّه إلى الكنيسة لأراقب، طوال اليوم، اختلاف الإضاءة بناءً على دوران الشمس، بحكم أنّ هندسة الكنائس مرتبطة بشكل عميق بحركة الشمس. عام 2008، أنشِئت أول جامعة عمومية لتدريس السينما في تونس، "ليزام" (المعهد العالي لفنون الملتيميديا بمنوبة" ـ المحرر)، التي درس فيها علاء الدين سليم، وتخرّج في أول دفعة. عام 2009، كان هناك نوع من الحركية التي تضم شباباً وأفلاماً وزخماً لم يكن موجوداً من قبل في تونس، فقلت لنفسي إنّ هذه فرصتي: إما أنْ أعود لأجرّب حظّي مع شباب من جيلي، وأخوض تجارب معهم؛ وإما البقاء في إيطاليا، كما اختار طارق بن عبد الله، رغم صعوبة الأمر. قرّرت العودة. حاول كثيرون إثنائي عن العودة، فأجبتهم بأنّي إذا أنجزت شيئاً ما، فأحبّ إنجازه في بلدي، مع هذا الجيل الذي أحسّ بأنّه مُقبل على خوض شيء جديد ومختلف.

حقيقة، لم أخطئ، بحكم المخاض الذي كانت تعيشه تونس عام 2009. لا أعرف كيف أشرح الأمر، لكنّنا كنّا نحسّ أنّ شيئاً ما سيحدث. كان هناك نوع من الغليان، بشكل أكبر في السينما، باعتبار أنّ الوسائل الرقمية أصبحت متاحةً، فأقدم أناسٌ كثيرون على التصوير، ولم يعد هناك خوف من التعبير بالصورة. كانت هناك طاقة وشحنة كهربائية تسريان في الأجواء. هكذا، عدت وبدأت أشتغل على أفلام قصيرة، وتعرّفت إلى علاء ومخرجين آخرين، كيوسف الشابي ونادية التويجر.

 

(*) كيف كنتم تلتقون؟ أكان هناك مكان محدّد تجتمعون فيه، أم أنّ المشاريع جمعتكم؟

لم نكن نعرف بعضنا بعضاً في البدء. قصة لقائي بعلاء الدين سليم طريفة للغاية، لأنّ اللقاء الأول لم يكن إيجابياً. كان في مقهى بصحبة صديق مشترك. سلّمت عليهما، فقال لي علاء: "آه، أنت أمين الذي درس في إيطاليا؟ هل تحمل معك مخدّرات من هناك؟" (ضحك). ظننته جدّياً في البداية، وتعجّبت كيف يكون هذا أول ما يسألني عنه. علاء اليوم من أقرب أصدقائي طبعاً. بدأنا في هذه الفترة تصوير أفلام قصيرة، موازاة مع فورة إنتاج، إذ صُوّر في تونس بين عامي 2009 و2010 نحو 100 فيلم قصير. هذا رقم قياسي للإنتاج، خاصة أنّ أغلب المخرجين شباب. عندها، بدأت الدولة تحسّ أنّ هناك غلياناً، فقال الرئيس إنّه ينبغي أن نقوم باستشارة وطنية حول السينما، بغية تغيير قوانينها. الحقيقة أنّهم انزعجوا من حركة إنتاج الأفلام، وأرادوا الحدّ منها. أنشأوا لجنة (اللجنة الوطنية لإعادة تأهيل وتطوير القطاع السينمائي والسمعي البصري في تونس ـ المحرّر) بزعامة قدماء المهنة من السينمائيين، وبدأوا يفكّرون في البطاقات المهنية والإنتاج والتوزيع، وفي الثقافة السينمائية. حضرت لجنةً، من دون تلقّي دعوة، لأنّهم استدعوا القدماء فقط. طرقت الباب ودخلت. قلت إنّي أودّ المساهمة في أعمال لجنة التقنيين، فردّوا بأنّ ذلك غير مسموح، لأنّ اللجنة كوّنها الوزير، لكن إذا أحبَبْت أن تجلس وتُلاحظ أشغالها، فلا بأس في ذلك.

هكذا تعرفت إلى علاء وشوقي كنيس، وشباب أحبوا المشاركة، لكنّ المؤسّسة رفضتهم، فقرّرنا أن نلتقي، ونكتب رؤيتنا لمستقبل السينما، أي كيف نرى السينما ونظرتنا إلى القوانين التي ينبغي أن تنظّمها. كنا نحو 15 شخصاً، التقوا في مكتب شركة علاء، "إكزيت للإنتاج". ظللنا نتقابل يومياً نحو شهر ونصف شهر، للاشتغال على رؤيتنا للسينما كشباب تونسيين، فكان تقرير من 110 صفحات قدّمناه إلى الوزير (تقرير إصلاح وتطوير القطاع السينمائي في تونس ـ المحرّر).

هكذا تعرفنا بعضنا على بعض أكثر، كسينمائيين شباب. تعرّفت إلى علاء كمخرج، وكان معنا منتجون ومخرجون وتقنيون. تخصّصاتنا متنوعة، لا تقتصر على الإنتاج. تقارب أفكارنا حول السينما جَمَعَنا. كنا نتناقش ساعات طويلة حول السينما التي نودّ إنجازها، وكيف أنّ السينما المستقلّة ينبغي أنْ تجد مكانها، وأن نحافظ عليها ونحميها من التأثيرات السلبية. نقاشاتنا تدور حول فلسفة السينما، وكيف نضمن أنّ الجيل المقبل بعدنا لن يجد المشاكل نفسها التي كانت تواجهنا.

المساهمون