هناك مقولة تتردّد، بين حينٍ وآخر: أهمّ منتقدي أميركا (الولايات المتحدّة الأميركية)، في أفعالٍ ومسالك وثقافةٍ وعيشٍ، هم أميركيون، يُنجزون أفلاماً، ويكتبون رواياتٍ، ويؤلّفون أبحاثاً ودراساتٍ، ويصنعون فنوناً. لن يُسيء إلى هؤلاء وصفٌ مفاده أنّ معظمهم يتحدّرون من أصول غير أميركية، فالجميع في أميركا متحدّرون من أصولٍ غير أميركية.
أهمّ انتقادٍ لأميركا، أميركيٌّ بحت. هذا واضحٌ وثابتٌ وقديم. سينمائياً، أفلامٌ كثيرة مُنتجَة بأموالٍ أميركية، ومصنوعة بفضل أميركيين وأميركيات، تُفكّك اجتماعاً وسياسة واقتصاداً وإدارة وقيادة وإعلاماً ونفوساً وسلوكاً وأحوالاً وعلاقاتٍ، لتعرية بلدٍ وناسه، ولتنبيه بلدٍ وناسه على وقائع يجهلونها، أو ينفضّون عنها لأسبابٍ جمّة، وعلى حقائق يهربون منها خوفاً وقلقاً من قدرتها على تعريتهم، أي على فضح حقيقتهم.
أفلامٌ كثيرة، وأسماء فاعلة في المشهد السينمائي، وتفاصيل مُثيرة لاشتغالٍ يفضح ويُعرّي ويُفكِّك، وبعض هذا الاشتغال يدعو إلى نقاشٍ، ويحثّ على تأمّل، ويريد تنبيهاً، ويستند إلى وعيّ معرفي، وإنْ يكن الوعي فردياً، غالباً. الردّ، بمعظمه، يتمثّل بأفلامٍ ساخرة، أو بحلقات من مسلسلاتٍ كوميدية، أو بإنتاجٍ معاكس، يتغنّى بأمجاد وبطولات، ويسعى إلى تثبيت أساطير عن بلدٍ يُنقذ العالم، وينشر فيه معرفة وديمقراطية وإصلاحاً، لن يتحقّق شيءٌ واحدٌ منها واقعياً. الردّ، بغالبيته، ينعكس في أعمالٍ تُسخِّر الخيال العلمي لقولٍ يُجمِّل إدارات حاكمة وقيادات متحكّمة، وتُروِّج لأبطال خارقين ينشرون عدالةً وإنْ عبر عنفٍ وقتلٍ وتدمير، ويؤكّدون، مراراً، على أنّ الفرديّة أهمّ وأقوى من أيّ شيءٍ آخر، يُفترض به حماية الفرد وتلبية حاجاته وحقوقه.
أجمل انتقادٍ، عميق وحادّ وقاسٍ وحيوي، يصنعه أميركيون وأميركيات، استناداً إلى عيشٍ يومي، وتأمّل وتفكيرٍ ينبثقان من مستنداتٍ ووثائق وشهادات وتحليلاتٍ ونقاشاتٍ، ومن بحثٍ دائمٍ في الخفايا والأرشيف عن كلّ ما يكشف عن مزيدٍ من وقائع وحقائق، وعن كلّ ما يقول وقائع وحقائق. أجمل انتقادٍ، عميق وحادّ وقاسٍ وحيوي، يُصنع بسخرية مُضحكة، أو بجدّية صادمة، وفي الحالتين، هناك أرشيفٌ قابلٌ لتحليل يؤدّي إلى كشفِ مستورٍ، وإلى إعلانِ غير المُفكَّر به سابقاً. انتقادٌ كهذا يستند، أحياناً، إلى توليفٍ لتسجيلات ولقاءات ومعاينة دقيقة ليوميات، فردية وجماعية، ولمحتوى إعلاميّ يعكس نبض حياةٍ وواقع في اجتماع وعيشٍ.
إنتاج أعمالٍ انتقادية كهذه أميركي صرف. استديوهات وشركات إنتاج هوليوودية تخوض معركةً كهذه، بين حينٍ وآخر، والأسباب غير مهمّة، وإنْ يكمن أبرزها في رغبةٍ، فردية وجماعية، في مواجهة حالة أو آلية إدارة أو أشخاصٍ محدّدين، من دون تناسي أنّ هناك ميولاً، سياسية وثقافية وأيديولوجية (أحياناً)، تُحرّك هوليوود في اتجاهاتٍ معيّنة، في لحظاتٍ معيّنة.
المكانة الفاعلة والمهمة لسينمائيين وسينمائيات، تتمثّل صفتهم الأبرز في التمرّد والمشاغبة، عاملٌ أساسيّ، غالباً، في فرض شروطٍ إنتاجية لتحقيق أفلامٍ تنتقد وتُفكِّك وتُعرّي. هذا كلّه يحصل بشكلٍ مباشر وواضح، من دون إلغاء أي اشتغال سينمائي في صُنع فيلمٍ أو سلسلةٍ أو عملْ؛ أو بشكلٍ غير مباشر، في أفلامٍ روائيّة تستند إلى وقائع وحقائق، لكنّها تتحرّر منها سينمائياً، بهدف إنتاج صُوَر سينمائية بحتة، تقول وتكشف مخفيّاً، أو غير مُعلنٍ عنه.
قبل أسابيع قليلة على نهاية عام 2021، تُنتج "نتفليكس" فيلمين اثنين، يفضحان ويُعرّيان أميركا، في مستويات عيشها: "لا تنظر إلى الأعلى" (2021) للأميركي آدم ماكاي، و"الموت لـ2021" لجاك كْلاف وجوش روبن. كما يُنجز أوليفر ستون ما يُمكن اعتباره استكمالاً سينمائيّا وثائقيّا لرائعته الروائية "ج أف ك" (1991)، بعد 30 عاماً: JFK Revisited: Through The Looking Glass، المُنجز عام 2021، والذي تصعب ترجمة عنوانه إلى العربية، لما في العنوان الإنكليزي من تلاعبٍ بالمفردات ومعانيها، ومن إحالةٍ إلى رواية لويس كارول، التي تُعتَبر تتمة لـ"مغامرات أليس في أرض العجائب" (1865): "من الجهة الأخرى، وما الذي عثرت عليه أليس هناك" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي: Through The Looking Glass, And What Alice Found There)، الصادرة بلغتها الأصلية عام 1871.
يُركّز وثائقيّ ستون على حدثٍ واحدٍ، يتمثّل باغتيال الرئيس الأميركي جون فيتزجيرالد كينيدي (1917 ـ 1963)، ويكشف أحوال بلدٍ لحظة الاغتيال، وما قبله وما بعده، في السياسة والأمن والعلاقات الاجتماعية والاقتصاد، فيُقدِّم بعض الجديد في المسألة، المخبّأ وغير المُفكَّر به والمُهمَل، أو يُعيد قراءة المعلوم، والوارد في "ج أف ك". يقول ستون إنّه مصدومٌ إزاء جهلٍ طاغٍ على أكثر من جيل أميركي، بخصوص كينيدي واغتياله، أي بخصوص أميركا وارتباكاتها، وهذا تحريضٌ له على إنجاز الوثائقيّ، من بين أسبابٍ أخرى للتحريض، معايناً ما لديه من معطيات، ومعرّياً، مرّة جديدة، بلداً واجتماعاً وأناساً ونظام حياة وتفكير وعلاقات.
فيلما ماكاي وكْلاف ـ روبن ينفلشان على مسائل كثيرة، تُساهم في إحداثِ مزيدٍ من الخلل في بنية تفكير الفرد الأميركي، ومشاعره وحساسيته إزاء عيشٍ وآليات حُكمٍ وتحكّم، ويتقاطعان في نقاطٍ عدّة، في كشفهما وقائع أفراد وجماعات في كيفية التعاطي مع كلّ شيءٍ تقريباً، وفي كيفية الخضوع لسلطاتٍ، في السياسة والاقتصاد والعسكر والإعلام، كما في وسائل التواصل الاجتماعي.
كلّ فيلمٍ من هذه الأفلام الـ3 يستحقّ المُشاهدة والنقاش، فالمسائل المطروحة فيها أكبر من أنْ تُختصر بتعليقٍ نقدي، وأعمق من أنْ تُناقش بكلامٍ عابر. الأفلام الـ3 تقول أيضاً إنّ أميركا قادرة ـ رغم كلّ شيءٍ ـ على أنْ تكون هكذا: فسادٌ وفضائح وسلطات حاكمة ومتحكّمة، وأفرادٌ أميركيون يواجهون ويُعرّون ويُفكّكون أحوالها، بقسوة وحدّة غالباً.