كانت البداية مع ابن المسجع، حين سمع الفرس يغنون في أثناء بنائهم للمسجد الحرام، فاستحسن موسيقاهم ليستبدل كلماتهم بأبيات من الشعر العربي، مستبعداً من النغم ما رآه غير مناسب للذوق المحلي. إلى جانب ذلك، درس الموسيقى البيزنطية وتعلم قواعدها ونظرياتها، ومن هذه البداية تدلت سيرة الموسيقى العربية، سيرة سجلتها مؤلفات عدة، منها "ألف ليلة وليلة"؛ أحد أهم النصوص في تاريخ الأدب العربي.
تخللت حكايات "ألف ليلة وليلة" أبرز أسماء المغنين والمطربين في العصرين الأموي والعباسي، كذلك، قدم لنا النص الأدبي القديم أشهر الآلات الموسيقية، وصور مدى حضور الموسيقى في مجتمعاتنا العربية في ذلك الزمان.
نُصادف في الحكايات أسماء أهم المغنين والمغنيات في العصرين الأموي والعباسي، فيعرفنا الكتاب إلى أبرز الموسيقيات، منهن البدر الكبير، الجارية المتعلمة التي نشأت وتربت في قصر جعفر بن الخليفة موسى الهادي. ولم يعرف هذا الزمن من هو "أعرف منها بصناعة الغناء وضرب الأوتار" وما إن سمعها محمد الأمين ابن هارون الرشيد حين كان أميراً، وقبل أن يتولى الخلافة، حتى أسرته بصوتها وجمالها، ليختطفها ثم يطيب خاطر مولاها جعفر بزورق مليء بالذهب وفضة، فيرضى الأخير.
هناك أيضاً نُعم، التي رباها كوفي كان قد اشتراها وأمها، فتعلمت نُعم في بيته القرآن والعلوم المختلفة و"عرفت أنواع اللعب والآلات والملاهي" ثم زوجها الكوفي لابنه. لكن موهبتها الفريدة وجمالها النادر استدعيا اهتمام الحجاج بن يوسف الثقفي الذي اختطفها وأهداها إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ليتدخل القدر ويحملها إلى زوجها مرة أخرى. تشي الحكايات بأن أغلب المغنيات كنّ حرائر أو معتوقات، تلقين فنون الغناء والموسيقى حين كانت الواحدة منهن ما زالت قينة (أي المغنية الجارية)، ولم تكن الحفلات الخاصة والعامة تخلو من عزف إحدى القيان على آلة الطنبور، كذلك في الأعياد الدينية وغير الدينية.
يلفت "ألف ليلة وليلة" الانتباه إلى أن المغنيات والقيان حظين بمكانة كبيرة عند مواليهن، وتمتعن بالتقدير والاحترام وكوفئن كذلك بالهبات الضخمة. ولم تكن معارفهن قاصرة على الموسيقى وفنونها، بل امتدت لتشمل علوماً شتى، فكانت هناك تودد، قينة أبي الحسن البغدادي، التي أذهلت بما جمعته من علوم ومعارف هارون الرشيد؛ إذ ألمت بالشعر وعلوم اللغة وعلم الحديث وعلم الفرائض والحساب والقسمة والمساحة وعلم الحكمة والمنطق والهندسة والفلسفة وعلم الرياسة، بجانب براعتها في الغناء والرقص. وهناك أنيس الجليس، جارية أمير البصرة التي "تعلمت الخط والنحو واللغة والتفسير وأصول الفقه والدين والطب والتقويم والضرب بالآلات المطربة"، وغيرهن كثيرات.
أما المغنون أو الآلاتية، مثلما كانوا يسمون نسبة إلى آلة الطرب، فقد حظي معظهم بمكانة كبيرة في بلاط الخليفة، واشتهر منهم إبراهيم الموصلي، أهم موسيقي في عصره، كذلك يونس الكاتب ومعبد بن وهب وعبد الله بن سريج وإبراهيم بن المهدي شقيق هارون الرشيد. وكان على المغني أن يتمتع أيضاً ببعض المعارف والفنون الكلامية، حتى يمسي نديماً ظريفاً للخليفة أو لأبناء الطبقة العليا.
بحسب "ألف ليلة وليلة"، تنوعت الآلات الموسيقية في هذا العصر بين: آلات هوائية، وتشمل المزمار والبوق والناي والناي التتري والشبابة. آلات وترية وتضم العود والجنك والقانون والطنبور والسنطير. الآلات الرنانة، ومنها الأجراس والجلاجل والخلاخيل والقلاقيل والناقوس والقضيب والكاسات. الآلات الإيقاعية، وأبرزها الدف والطار والطبل والكوس والدربكة.
من الوتريات التي تردد ذكرها مرات القانون، لكنه جاء تحت توصيف العيدان
بين كل هذه الآلات، تقدم العود ليمسي الآلة الأهم بطبيعة الحال، لتستعرض الحكايات ثلاثة نماذج من العود: العود العراقي والعود الهندي والعود الجلقي (الدمشقي). وتصور الحكايات كذلك عوداً بأربعة أوتار وآخر بخمسة وثالث بستة حتى ثمانية أوتار، يمسك به المغني أو المغنية بصورة أفقية، بحيث يتمكن العازف من رؤية أصابع يده اليسرى في أثناء العزف.
أما تسمية العود فترجعها الحكايات إلى صورة رسمها العربي القديم، إن غصنا في إحدى الأشجار امتص تغريد بعض الطيور ومن خشب هذا الغصن صُنع العود.
ومن الوتريات التي تردد ذكرها مرات القانون، لكنه جاء تحت توصيف العيدان. وخلافاً للطريقة الحديثة في الإمساك به، كان العازف يعزف عليه رأسياً، إذ يسند ظهر الآلة إلى صدره، ليضرب عليها بيد واحدة. وإلى جانب هذا النوع من القانون، كان هناك شكل آخر يسمى السنطير، يعزف عليه أفقياً بقضبان، ومن الوتريات أيضاً الجنك (الهارب)، وتراوح أوتاره بين العشرين والسبعة والعشرين.
وتنبه الحكايات إلى أن الموسيقى الآلية كان لها مساحة من السماع، وتشكلت وفق نظام معين؛ فخضعت لسلم معروف، بينما تعددت الطرائق اللحنية إلى إحدى وعشرين أو أربع وعشرين، وجرت العادة أن يُعزف بالسهرات الغنائية على العود منفرداً أو مع الدف والقانون أو مع الطبل، وأحياناً ما يصاحب الناي العود وأحياناً يتقدم الناي في السهرة منفرداً أو مع الطبل أو الدف، كما تصور حكايات استعمال الصنج مع السنطير.
تكثر الإشارات في الحكايات إلى الموسيقى العسكرية، إذ تعددت الإشارات إلى فرقها تحت مسمى الـ"نوبة". ويتبين أن نشاطها الرئيسي في وقت السلم تمثّل بعزف بعض المقطوعات الموسيقية بساعات محددة (نوبات) من اليوم، كما كانت تلك الفرق تشارك في المناسبات المتنوعة أيضاً.
أما في زمن الحرب، فكان حضور النوبة مع الجيش مختلفاً إلى حد بعيد، فتتمركز في ساحة تبتعد نوعاً ما عن أرض المعركة، لتكون في بعض الأحيان "سبباً في النصر"، مثلما يرد في الحكايات، إذ تتدخل بعزفها الحماسي في أثناء تقهقر جيشها محرضة إياه على الثبات في أرض المعركة والكر على العدو. وتألفت تلك الفرق أو النوبات بشكل رئيسي من الطبول والأبواق والكاسات، أو من الطبول والكاسات، أو من المزامير والطبول، أو من المزامير والكاسات، وأحياناً كانت تتكون من الأبواق والطبول والكاسات، أو من الطبول والمزامير والكاسات.
حضرت الموسيقى كذلك بقوة في الحياة الاجتماعية، فلا تخلو منها الأفراح والمناسبات الخاصة والعامة، ومثلما كان للطبقات العليا موسيقيوها، كان للعامة مغنون شعبيون ومغنيات محترفات، يحيون تلك المناسبات. واقترنت الموسيقى لدى الطبقات العليا، وفق "ألف ليلة وليلة"، بشرب الخمر والجواري والقيان. وتنقل الحكايات عزوف أبطال لها عن الاقتراب من الشرب إذا لم يكن مقترناً بالسماع، فيقول أحدهم: "الشراب بلا سماع عدمه أولى من وجوده". ويقول ثانٍ: "الشرب بلا طرب لا يورث الفلاح". ويحذر ثالث: "الشراب بلا سماع ربما أورث الصداع".
وبينما انتشرت هذه الصورة في ملاهي الطبقتين المتوسطة والعليا اقتداءً بمجالس الخلفاء، حضرت الموسيقى لدى الطبقات الفقيرة على هيئة أخرى "منعشة كالمروحة"، فتتحدث الحكايات عن "العبد الأسود ومزماره" و"الفوال والزبال اللذان كانا يرقصان أثناء الغناء" و"الحمامي ودربكته"...
ولا تنسى الحكايات التنبيه إلى موقف الفقهاء الرافض للموسيقى والغناء. ففي حكاية أبي حسن اللبق، الذي كان مغرماً بالموسيقى والغناء، ولا تكاد لياليه تخلو من سهرات الطرب والغناء، ليشكوه جيرانه ومعهم إمام المسجد والمشايخ، فسبّب هذا إنزال العقاب عليه من قبل الوالي.
وذات مرة، صادف الخليفة هارون الرشيد، من دون أن يعرفه، فتمنى أمامه أن يجلد كل من ساهم في أذيته ألف جلدة، ليحقق الخليفة أمنيته فيجلدهم جميعاً، معرفاً إياهم بأن هذا جزاء كل من يزعج جيرانه.
بحسب "ألف ليلة وليلة"، كانت الموسيقى حاضرة في المجتمعات الإسلامية عامة، غير قاصرة على مجالس الخلفاء والطبقات الثرية، فكانت "ملهمة للدرويش وعلاج للطبيب، وملهاة للخليع، ومسرة للوقور، ومثيرة للجندي"... كانت الموسيقى قوام هذا العالم، عالم "ألف ليلة وليلة".