يعاني النقد السينمائي غياباً شبه تامٍ في الصحافة الورقية العربية، صحفاً ومجلات. الاهتمام الصحافي العربي بالسينما قليلٌ، فالهمّ الطاغي كامنٌ في السياسة، بمعناها اليومي، لا بفكرٍ ونقاشٍ أكبر من اليومي وأعمق وأهمّ. والسينما، إذْ يُسمح لنقدها (أي القراءة المازجة تفكيراً ونقاشاً باشتغالٍ صحافي غير أكاديمي) بتواجدٍ متواضع في صفحاتٍ ثقافية، تبقى الأقلّ حماية من شؤون ثقافية وفنية أخرى، رغم أنّ مدراء أقسامٍ ثقافية، في صحف ومجلّات عربية متفرّقة، يمتلكون حسّاً سينمائياً ما، فيتيحون للنقد مساحة نقاشٍ وحوار، من دون قدرة لهم/لهنّ على تحصين دائم له، فلإدارة التحرير "رأي" آخر عند كل منعطفٍ أو تغيير في التصاميم الفنية للمطبوعات.
كثير من المواقع الإلكترونية مسيئة، بشكلٍ عام، للسينما، فالكتابة في غالبيتها الساحقة تفتقد حساسية النقد، وقلّة تكتبه فتُثير الكتابة متعةَ قراءة، وتحريضاً على مشاهدة أخرى. وسائل التواصل الاجتماعي كارثةٌ بحقّ السينما ونتاجاتها، فهذه "الديمقراطية" متفلّتة من كلّ قيدٍ، وجاهلة كلّ معرفة، وفاقدة كلّ وعي ثقافي وفني، إذْ إنّ "غالبية الذين يكتبون في الـ"إنترنت"، أو يُسجّلون تدوينات صوتية، يبدون كمعجبين فقط. الآن، لا يوجد بالقدر الكافي استثمار في النظرية والتحليل والكتابة"، يقول كوانتن تارانتينو (المجلة السينمائية الشهرية الفرنسية "بروميير"، يونيو/حزيران 2020)، ردّاً على تعبيرٍ لفرديريك فوبار: "لديك كلمات قاسية للغاية عن حالة النقد اليوم". يسأله تارانتينو: "أصحيح هذا؟ ماذا قلتُ؟"، فيُجيبه: "إنّ النقد مات، و"إنترنت" قتله". يتعجّب تارانتينو: "صراحةً، لا أعرف إنْ يكن هذا قاسياً جداً"، قبل قوله إنّ "الأمر بالضبط أنّي كبرتُ وأنا أقرأ نقداً يكتبه محترفون، في زمنٍ يُفترض بمن يكتب عن الأفلام أن يُتقن بناء جملة، وأن يُفكّر سينما". يُضيف: "اليوم، هناك تلك الديمقراطية، حيث لم يعد يهتمّ أحدٌ بتلك المتطلبات الأساسية، فتُنتج حزمة هراء. منذ 15 عاماً، كان الأمر مختلفاً"، منهياً تعليقه بالقول إنّ "الجانب الجيّد يكمن في أنّ هذا يمنح الذين يعرفون الكتابة قيمةً أكبر".
في الـ"إنترنت" والتسجيلات الصوتية، العربية على الأقلّ، يتقابل "الإعجاب" مع حملات تحريض وشتائم وتعنيف كلامي على أفلامٍ غير مُشاهَدة غالباً، وهذا أسوأ سلوكٍ ينتهجه كثيرون وكثيرات إزاء السينما (وغيرها). مطبوعات صحافية عربية ترى في السينما فنّاً غير مرتبط بالثقافة والنقاش، بل بتسليةٍ تهتمّ بأخبار السينما وفضائح ناسها، أكثر من اهتمامها بصناعتها وثقافتها. زملاء وزميلات عديدون في المهنة "يتحوّلون" إلى متابعين صحافيين لـ"الدراما" الرمضانية، لأنّ المؤسّسات تكترث بها في 30 يوماً، كونها (الدراما) أكثر شيوعاً في ذاك الشهر.
التجربة الحاصلة في "العربي الجديد" غير حاضرة في مطبوعات عربية أخرى. منذ أعوامٍ قليلة، تُنشر 3 صفحات سينمائية أسبوعياً، في محاولةٍ جدّية لمتابعة بعض أبرز النتاجات الحديثة وأهمّها، كتابة ونقاشاً وحوارات وتحقيقات، وبعض النتاجات القديمة في قراءات جديدة. تجربة تحتاج، بدورها، إلى نقاشٍ يرتكز على المهنيّ في الصحافة اليومية، كما على الثقافيّ والفنيّ والتجاريّ/الصناعي/الاقتصادي في السينما. التجربة مستمرّة، والمشاركون/المشاركات فيها، كتابةً ونقاشاً وحوارات وتحقيقات، يجهدون في معاينةٍ دقيقة، ومتابعةٍ نقدية، وسجالاتٍ غير مبتعدةٍ عن الأكاديمي والنقديّ، أحياناً، في بلدانٍ يُدرَّس فيها النقد مثلاً أو لا يُدرَّس، رغم وجود نقّادٍ وصحافيين وصحافيات سينمائيين، ومهنة "الصحافة السينمائية" ضرورية وأساسية، شرط ألّا تقع في مطبّ الأخبار والنمائم والفضائح، مع أنّ لهذا المطبّ قرّاءً وقارئات كثيرين في العالم، وعلى مهنة الصحافة متابعتها.
مأزق آخر كامنٌ في مجلّات سينمائية، تصدر حديثاً في مدن عربية قليلة. مأزقٌ يتمثّل في أنّ المطبوعة الجديدة، وهذا مهمّ فالسينما العربية تحديداً محتاجة إلى مطبوعات متخصّصة بها، غير متمكّنةٍ من تقديم جديدٍ أو إضافةٍ أو نَفَسٍ نقديّ، يقرأ الحديث والقديم بلغةٍ غير صحافية كلّياً، إذْ يُفترض بالمجلات المتخصّصة، الشهرية والفصلية، أنْ تتحرّر من المهنيّ الصحافي البحت. إصدار مجلات سينمائية عربية، في زمنٍ انهيار وانكسار وخيبات وآلامٍ وعنف، مُثير لاحترامٍ كبير، ولاهتمامٍ متواضع، لأنّ المضمون "عاديّ"، في الكتابة والمواضيع والتصاميم الفنية، وهذا مؤسف.
أخطاء تُرتكب في مقالاتٍ، يُراد لها أنْ تكون نقدية/صحافية سينمائية. هذا محزن. مطبوعات ومواقع إلكترونية تنشر مقالاتٍ غير مُحرَّرة، وهذا مُسيء للمهنة أولاً، وللنقد والسينما أيضاً. لن أُحَيِّد نفسي عن "أخطاء"، لكنّ الأخطاء في سينما "العربي الجديد" نادرةٌ، فالزملاء والزميلات محترفو نقدٍ ومهنة، وما من أحدٍ معصوم عن خطأ، غير مقصود.
المكتوب أعلاه محاولة لنقاشٍ نقدي، غير مدّعية وغير متشاوفة، وغير بريئة أيضاً. الحاجة ماسّة إلى صحافة سينمائية عربية، فيها مكانٌ للنقد أساسيّ ودائم، لتثبيتِ موقعٍ له يتمكّن به من إحداث تأثير ما، ولو قليلاً.