أفلام قصيرة في "كليرمون فيران": اشتغالات سينمائية تُثير أسئلة الماضي

23 مارس 2022
"بٍستيا" للتشيلي هوغو كوفاروبياس: ذاكرة التعذيب (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تُضفي أفلامٌ قصيرة عدة، معروضة في الدورة الـ44 (28 يناير/كانون الثاني ـ 5 فبراير/شباط 2-22) لـ"مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة"، حيويةً على حضورها في المشهد السينمائي المعاصر، الذي يستدعي قراءة وتحليلاً ومتابعة لتطوّر أنساق معالجاتها أفكاراً ومسائل تاريخية سياسية، ومعاينات لحالات فردية، يصعب مقاربتها سينمائياً من دون إعادة نظر وتفكير مستمرّين في مفهوم "الفيلم القصير"، خاصة التحريك، مع الانتباه إلى استثمار صُنّاعِه التجديد الحاصل في الرسم والنحت، واستفادتهم من الثورة التقنية، التي توفّر لهم مساحةً، وأنماطَ تعبير بصري، تجاوزت التقليدي، ووضعت المفاهيم الجمالية للنوع السينمائي موضع دراسة ومعاينة دائمتين.

بعض ذلك حاضرٌ في مُنجز التشيلي هوغو كوفاروبياس، "بِستيا" (2021، صامت، 16 دقيقة)، الذي وجد في المادة الشمعية، المصقولة والجامدة، خامة طيّعة، تستجيب لمتطلبات رسم الشخصية الرئيسية: شرطية قاسية، باردة المشاعر، تعمل في قسم التحقيقات التابع للمخابرات التشيلية، في زمن حكم الجنرال أوغستو بينوشيه، في سبعينيات القرن المنصرم. صباح كلّ يوم، تذهب إلى عملها. تُوَقّع على حضورها، وتباشر تعذيب سجناء سياسيين قابعين في قبو البناية. عصراً، ترجع إلى منزلها، وتمضي بقية وقتها مع كلبها، وحيدة.

لا يرتكن صانعه إلى العادي في رسم شخصية الجلاّد. يقترب من دواخلها المُرتبكة، ليُجسّد قلقاً وخوفاً يعتريانها، ويُفسدان عليها طمأنينة لازمة لعيشٍ سوي. يقارب "بِستيا" (جائزة أفضل فيلم تحريك في المسابقة الدولية) حساسيات فردية، تُلازم الكائن البشري، حتّى عند القساة، ومُتجمّدي المشاعر بينهم. لا تستدعي حالتها تعاطفاً، بقدر ما تنشد تفكيراً ملياً بها. محاولة اغتيالها من سياسيين معارضين، ونجاتها من الموت بأعجوبة، تحيل إليه، وتقترح عبره التفكير بطرفين: الفعل الانتقامي، وحالة جلاّدة لم يخفّف عنها أثقال كوابيسها الليلية، ولا بشاعة التخيّلات النهارية، الملازمة لوجودها المُعَذَّب، سوى أجَل تأخّر وصوله قليلاً. نجت من الموت، وغادرت المكان، الذي أعادت السينما تكوينه في فيلم قصير، مذهل في فرادة معالجته، وعمق قراءته تاريخاً سياسياً، يواظب الفيلم على مراجعته.

مثل كوفاروبياس، القارئ للتاريخ السياسي لبلده، يقرأ 8 مخرجين فرنسيين فصلاً من تاريخ بلدهم، في فيلم تحريك، مدّته 9 دقائق. لا تباهي في كثرة العدد، بقدر كشفه عن رغبة مشتركة لسينمائيين توّاقين إلى إعادة تجسيد حدث تاريخي، لا يصحّ تجاهله، بفيلم سينمائي قصير. حدثٌ، تتقارب رؤياهم حوله، ويتفقون على أهمية التذكير به، إذْ يُرجَّح أنّ الأجيال الفرنسية الجديدة لا تتذكر ما حدث في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، عندما أطلق رجال الشرطة ـ بأمر من وزير الداخلية موريس بابون ـ الرصاص على متظاهرين جزائريين سلميين، خرجوا في باريس للمطالبة بالحرية لبلدهم. سقط منهم كثيرون. جثث بعضهم استقرّت في أعماق نهر "السين".

"دموع السين" (2021، جائزة المؤثّرات الخاصة في مسابقة الأفلام الوطنية) يستعيد تلك اللحظة، بمسارين متوازيين: الأول يستمد مرجعيته من "مجزرة باريس"، والثاني يستعيدها من المخيال السينمائي، المُعبّر عن انفعالات لازمت مشاركين في الحدث، حلموا ـ لحظتها ـ بأنّهم سيحقّقون ما يريدون، بخروجهم إلى الساحات، لإعلان تضامنهم مع نضالات شعبهم. المشهد العام، المرسوم بالأزرق الغامق، ينقل مواجهة رجال شرطة، مدجّجين بالسلاح، وعمّال جزائريين، مسلّحين بفكرة الحرية. نهاية المواجهة يُريدها صُنّاعه (يانيس بلعَد، إليوت بينار، نيكولا مايور، اتيان مولان، أرديان بينو، ليزا فيسَنتي، فيليبين سنجر، أليس لوتيور) مختلفة. يستعينون لتحقيقها بجمع "فيغرات" تحريك لمتظاهرين محتشدين في ساحة ملعب كرة قدم، مع أنغام موسيقى "جاز" (اللبناني الفرنسي إبراهيم معلوف)، غطّى صوتها على بقية الأصوات. صوّروا من الملعب لحظة تاريخية انفعالية، تداخلت فيها موسيقى مُبهجة بدم غزير. الدقائق الأولى تنثر بهجة جماعية، وتَعِد بنهاية سعيدة متخيّلة. لكنها تخبو سريعاً على وقع تدفّق الدماء من أجساد المبتهجين بـ"النصر" المُرتجى.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

التنافر الحاصل في جمع الفرح بالحزن يدفع النص السينمائي (سيناريو يانيس بلعَد وإليوت بينار) إلى تخوم الخيال، المقترح جَمعه مع الواقع، باشتغال سينمائي حداثوي، ينبّه إلى انفتاح الفيلم القصير على مساحات من التعبير قويّة الدلالة، وغير مُكتفية بقوة الحدث التاريخي، بقدر استثمارها له، لتوليد حالة جمالية، ربما تُسهِّل قبولاً لمناقشة التاريخ من منظور سينمائي، تكثيفه يزيح بَلادة خطاب سياسي مباشر.

في مراجعة تاريخية سينمائية، تبتعد المخرجة الهولندية إلينانَ إستر بوتز، كزملائها الفرنسيين، عن الخطاب السياسي الفجّ في مقاربة حرب البلقان، والمجازر التي ارتكبها الجيش الصربي ضد المسلمين، من خلال مُترجمين محلَّفين في "محكمة لاهاي الدولية". لم تستعن بأرشيف وبمقابلات شخصية، بل تركت البعض يواجه ذاته في غرفٍ تشبه غرف المحكمة، التي كانوا ينقلون فيها شهادات الضحايا والجناة المتهمين إلى القضاة، من دون تدخّل فيها، أو التأثّر بها.

هل حقاً كانوا "حياديين"، ينقلون كلام الضحايا من دون تأثّر به؟

"في تدفّق الكلمات" (2021، 22 دقيقة، جائزة أفضل فيلم وثائقي في المسابقة الدولية) يطرح السؤال وثائقياً، مُتتبعاً مسارات الأجوبة عليه بأسلوب حاذق، يترك للمترجمين مساحة للبوح، تُوهم ـ من دون خداع متعمّد ـ بأنّها مخصّصة لهم وحدهم، من دون أنْ يتشارك معهم أحدٌ في سماعها. في كلّ شهادة قصة، تكفي لإدانة مذنب. كلّ عبارة، تنطق بها الضحية، تترك أثراً مؤلماً عند المترجم. القصص، المنقولة عن ألسنتهم، تؤلّف نصاً سينمائياً يدين الجناة، ويرسم مشهداً واسعاً لحرب إبادة. تمنح لهم صانعته فرصة للتنفيس عن دواخلهم المُحتقِنة، وللتحرّر من عذابٍ فرضه عليهم عملهم. توفِّر السينما لهم ممرّات آمنة لكسر الصمت، وسرد القصص التي أوجعتهم تفاصيلها، وأربكت بشاعة وقائعها حياديتهم.

بمرارة، يتذكّرون الأمهات الثكالى، المتشبّثات بأمل العثور على فلذات أكبادهن، ولو بعد أعوامٍ على غيابهم المبهم. لا تزال كلماتهنّ ترنّ في آذان بعضهم، كأنّها تخرج من أفواههنّ للتوّ. من دون أن يشعرن، كَذّبن حيادهنّ الوظيفي، وانحزن إلى ضمائرهنّ الحية. أكملن، بشهاداتهنّ السينمائية، شهادات الضحايا.

الأسلوب السينمائي لإلينانَ إستر بوتز بارعٌ. اختصر حرباً دموية في دقائق، مُحرّرة به دواخل مترجمين. أعادت ذكرى مجازر لا يُمكن للتاريخ السكوت عنها، فكيف بالسينما، والفيلم القصير قادرٌ على تكثيفها في دقائق؟ جمال اشتغال "في تدفّق الكلمات" متأتٍ أكثره من إعادته رسم مشهد المحكمة، بتخطيطات تُقارب المكان الأصلي، والحاضرين فيه: "الكراسي كانت هنا. جلستُ بعيداً عن السيدة البوسنية، التي سألت قبل أنْ تجيب على أسئلة المحقّق وممثّل الادّعاء العام: هل عثرتم على ولدي؟".

المساهمون