أفلام المُنتجات الأميركية: كيف تصنع إعلاناً يمتد لساعتين؟

08 يونيو 2023
تبدو هذه المنتجات كأنها تمثيلٌ لما يُسمّى بالحلم الأميركي (Getty)
+ الخط -

في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وصلت لجنة التجارة الفيدرالية الأميركية إلى خلاصةٍ تقول إن الأطفال لا يستطيعون فهم نيّة الإعلانات، المتمثلة ببيع منتجٍ ما. ربما تبدو الخلاصة اليوم بسيطة وبديهية، بما لا يدفع لنقاشها حتى، إلا أنها ضمن سياقها التاريخي، حينها، كانت جزءاً من الاستجابة التي حاولت اللجنة تشكيلها لما عدته إغراقاً للأطفال بالإعلانات التي تمس غذاءهم وألعابهم.
بالطبع، تكللت هذه الجهود بالفشل لاحقاً، بعد تحرُّك هذه الصناعات لمواجهة اللجنة أولاً، ووصول رونالد ريغان إلى الرئاسة ثانياً؛ إذ عمد الأخير إلى تعيين رئيسٍ للجنة تتخذ موقفاً وديّاً تجاه الصناعات المخصصة منتجاتها للأطفال، ما أغرق السوق مجدداً بالإعلانات، والأهم، بالبرامج الكرتونية التي ستُنسَج قصصها وحكاياتها وشخصياتها لتخدم بيع المنتجات، مزيلةً الفوارق بين ما هو درامي وإعلاني.
ما يهم من الحكاية السابقة أمران؛ أولهما ما يميّز الأطفال من عجز عن فهم الإعلان بوصفه عملية اتصالية ذات غرض محدد، والثاني هو ذاك الخط الذي يزول بين الدرامي والدعائي. فمنذ عهد ريغان، كانت ميزانيات الدعاية في ازدياد مستمر، وتطورت أساليبها وأشكالها بالتوازي مع التطورات التكنولوجية من جهة، وقدرة المستخدمين على حجب وتفادي الإعلانات من جهة ثانية، وهي جدلية ستستحق التأمل في المستقبل. واليوم، يمكننا القول بوجود ميل عام لإعادة "براءة" الطفولة هذه، ومحو الخط أكثر وأكثر مع سلسلة من الأفلام التي صدرت هذا العام، وكان "المُنتَج" هو بطلها الفعلي.

هذا الفيلم من بطولة/ برعاية...

يقدم فيلم Air، من إخراج بن أفليك، القصة الملحمية لأحذية "إير جوردان"، مركزاً على جهود العبقري سوني فاكارو في إقناع لاعب كرة السلة، الصاعد حينها، مايكل جوردان، بالعمل مع الشركة. وبما أن هذه المادة، مهما اقتربت من كونها إعلاناً، تبقى فيلماً في النهاية، فإنها ستنصاع لبعض قواعد الفيلم.
سنلحظ الشخصيات، التي تمر برحلات تحوّل وتغير ما، وسنظن في لحظات أن هذا التعاون، الذي قدّم للبشرية سلسلة أحذية، قد يتهدد في لحظة ما (وهو أقرب ما يمكن أن يصل المشاهد إليه من تشويق)، إلا أن ما سيتعامل معه الفيلم بمنطق الإعلان سيكون العلامة والمنتج. فعلى عكس أفلام سابقة كان محورها الرئيسي هو "المُخترِع"، تركز الموجة الجديدة على ما يُخترَع، مسخرةً شخصية العبقري كأداة تلمّع قصة الكيان المادي غير الحي.


ففي فيلم آفليك، يبدو حذاء جوردان النتاج الطبيعي للحلم الأميركي ووليداً لـ"نايكي"، الحصان الأسود الذي يبهت حين يقارن بمنافسيه مثل "أديداس" و"كونفرس". وفي معركة غير متكافئة كهذه، تصبح عوامل الحسم مثاليةً بما يلائم الحلم الأميركي. ومقابل كل ما يظهر، ثمة ما يختفي أيضاً لكي تلمع الصورة. وهنا يصح التساؤل عن الأبطال الخارقين الذين سيتجاهلهم الفيلم، مثل العمال الذين يصنعون الأحذية - باعتبارها أعقد من مجرد مفاهيم - وظروف عملهم وتضحياتهم التي ترفع أسعار الأسهم وتزيد نمو حصص السوق. أي، باختصار، مجمل العناصر التي ستغيب عن الحكاية، لأنها أولاً وأخيراً مجرد دعاية.
ليس الفيلم حالة استثنائية كما ذكرنا، ففي التاسع من يونيو/ حزيران، سيستطيع العالم معرفة حكاية ريتشارد مونتانيز، الرجل المعجزة الذي تحوّل من آذنٍ إلى ريادي أعمال، وابتكر النكهة الحارة التي ميّزت منتجات "تشيتوس". ورغم أن الحكم على عملٍ لم يُعرَض بعد عملية إشكالية، إلا أن ما يتوفر من المعطيات يقول شيئاً ما.
ففي البداية، ثمة شكوك حول قصة مونتانيز بوصفه مخترعاً، وتقول رواية أخرى إن المنتج طوّره فريق يعمل في الشركة المصنعة، وإن كانت القصة الحقيقية - مجدداً - عاملاً يمكن تطويعه بمرونة في الدراما. سيصح طرح سؤال آخر: ما المشترك أيضاً في هذه الروايات؟ إن كانت هذه أو أخرى مثل "تيترس" أو "آنفروستد"، الذي سيعالج فيه جيري ساينفيلد قضية هائلة بحجم صراع شركتين كبيرتين على أحد منتجات حبوب الفطور.

ضد التاريخ

تعمل هذه الحكايات، إذن، على تلميع الصورة وتحريك المبيعات، أو على تغليب روايةٍ ما، كما في حالة مونتانيز. ولأن طرح حكاية حذاء ما، من منظور غرف الاجتماعات والتقارير المالية سيكون مملاً، يتضح الدور المحوري للشخصيات البشرية، تلك التي تحمل أسماءً وتتحرك بدوافع معينة. وهنا يبرز الصراع الأهم، الذي يرتبط بدوره بكيفية قراءتنا للتاريخ. فمقابل روايات "الأشخاص العظماء"، إن كانوا رواد أعمال أو قادة وسياسيين، ثمة قراءات أخرى يذهب بعضها باتجاه معاكس بدرجات مختلفة، ويكون الفرد فيها فاقداً لكل هذه السطوة على عالمه الذي تؤثر القوى الخارجية على سيره.
ليست سردية "العظماء" غريبةً على هوليوود، أو شيئاً من مفرزات هذه الأفلام، إلا أنها تصلح أحياناً لتمييز الأعمال الغنية عن تلك التي تصلح للتشغيل في الخلفية عادةً.
وفي هذا السياق، فإن اختيار هذه السردية هو الذي يصنع الفارق بين أعمالٍ تبدو كإعلانات طويلة، وأخرى تسعى، مثلاً، نحو وضع حذاء جوردان، أو شيبس تيشتوس، ضمن سياقها وتفحص علاقة هذه الظواهر بما حولها، وهذا الفارق هو ما يسهل مهمة الحكم على الأعمال، قبل متابعتها حتى. وبما أن إيكال المهام المعقدة إلى هوليوود يبدو مستحيلاً اليوم، لن نفاجأ عندما نشاهد الإعلان الطويل، إن كان سيسمى كذلك. إلا أن المسألة لن تكون بهذه البساطة بالطبع.

إن تقديم حكاية ببطل ومنتج، يغيران التاريخ بإرادة لا تلين، كشعلة لا تنطفئ وتحرق كل ما في طريقها لتحقيق غايتها، بالاعتماد على فضائل العصر من الجسارة والمخاطرة الذكية، لن يكون لطيفاً بما يكفي، وسيكون من زاوية أيديولوجية أشبه ما يكون بضربة إدانة. لذلك، فإن هذا النوع من الأفلام سيقدم نوعاً من الأهداف الجانبية التي ستغنيها. وهكذا، تصبح دعاية جوردان الطويلة متعلقةً بـ"تمكين الرياضيين"، كما في حالة مايكل جوردان، ولن تجد أي مشكلة في أن تحوم حول خطاب مارتن لوثر كينغ الشهير. وهكذا أيضاً تصبح نكهة تشيتوس احتجاجاً على عدم اهتمام الشركة بالمجتمع اللاتيني في الولايات المتحدة، على عكس منتجها الجديد الذي يحضّره البطل بالاعتماد على توابل "تقليدية" تمثل مجتمعه الأصلي، ولن يستبعد أحد، بالتالي، أن تكون دعاية شركة ماتيل، المتمثلة في فيلم باربي، إضافة نقدية مهمة هذا الصيف للنقاشات عن الجندر والعرق والصور التي تقدمها الميديا عن الجسد المثالي وسوى ذلك.

في الجوهر، قد يتبع هذا النوع من الأعمال المدرسة القديمة ذاتها، تلك التي تخشى الأفكار الجديدة والمخاطرة، وتفضّل الارتكاز إلى العلامات المعروفة وإعادة التكرير. إلا أنه في الوقت ذاته سيضع المشاهدين أمام مآزق جديدة: أي الإعلانين سيفضلون؟ هل سينزعجون عندما يُقاطع أحد الإعلانات القصيرة تجربة متابعتهم للإعلان الطويل؟ أم أن هذا النوع من الأفلام سيثير الملل بما يدفع أي مشاهد لاعتبار شيءٍ بحجم إعلانٍ قصير مفاجئ منقذاً يخلّصه من كل هذا الملل؟

المساهمون