أغنيات الطوفان: المأساة تقترح ألحانها وأصواتها

09 أكتوبر 2024
بعد عدوان الاحتلال على القطاع في عام 2014 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت الساحة الفنية انطلاقة قوية للأغاني الداعمة للقضية الفلسطينية مع اندلاع "طوفان الأقصى"، حيث أعادت الفرق الغنائية تقديم الأغاني الوطنية القديمة وابتكرت أخرى جديدة، رغم توقف النشاط الفني في غزة.

- تفاعل الفنانون العرب بإعادة تقديم أغاني تراثية عن فلسطين، مثل أعمال أم كلثوم وفيروز، وبرزت أسماء فلسطينية مثل إبراهيم محمد صالح ومهدي سردانة، بينما ظهرت فرق حديثة في غزة مثل "صول" و"وتر".

- تميزت الفترة الأخيرة بظهور أغاني الراب والميتال والمهرجانات، حيث أطلق فنانون مثل محمد عزب وعلاء حمدان أعمالاً تعبر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، وشهدت مصر إنتاجات غنائية تنتقد ازدواجية المعايير الغربية.

مع انطلاق "طوفان الأقصى" وبدء الحرب على قطاع غزة، انهمر سيل من أغنيات مساندة للقضية الفلسطينية، ولشعب القطاع. غيرت أكثر الفرق من برنامجها الغنائي، واستعادت فرق أخرى الأغنيات الوطنية والأناشيد الثورية القديمة. ونجح بعضهم في إبداع أغنيات جديدة تأليفاً وتلحيناً وغناءً، لتشتبك مع الأحداث اشتباكاً مباشراً. ومع توقف النشاط الفني في غزة، حاول المطربون والموسيقيون الفلسطينيون تحمل أداء "الواجب" الفني تجاه المأساة المستمرة، سواء منهم من يقيم في الضفة الغربية أو مدن "الداخل"، أو هؤلاء الذين يعيشون في مختلف بلدان العالم.
كما بذل كثير من المطربين العرب جهوداً واضحة من أجل فلسطينيي غزة بالغناء، على اختلاف أشكاله. جماهيرياً، أعاد رواد مواقع التواصل الاجتماعي أغنيات قديمة إلى الواجهة. وأعاد المطربون تقديم أغنيات عن فلسطين، من أعمال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفيروز، وكأن الحرب أخرجت التراث من صناديقه القديمة، وأزالت عنه غبار الزمن، ثم وضعته في خدمة الفعل المقاوم، لتكتشف الأجيال الجديدة أن النضال الفلسطيني راكم رصيداً ضخماً من الغناء، كما راكم رصيده من المعارك والكفاح.
ربما كان محمد عبد الوهاب أول من افتتح باب المناصرة الغنائية للشعب الفلسطيني بأيقونته الشهيرة "أخي جاوز الظالمون المدى"، ومن بعدها امتد هذا الغناء زمنياً حتى قطع سبعة عقود، ثم امتد مكانياً ليشمل عموم فلسطين، وكل البلاد العربية. أثناء هذه الفترة الطويلة، استطاع عدد من أصحاب الأصوات المهمة أن يتركوا علامات تاريخية على طريق الغناء لفلسطين، ومن أبرز هذه العلامات: "زهرة المدائن" لفيروز، و"أصبح عندي الآن بندقية" لأم كلثوم، و"يا فلسطينية" للشيخ إمام عيسى. وبين هذه العلامات الكبيرة، سيجد المستمع أعمالاً لم تحقق القدر نفسه من الشهرة، لكنها كانت ضرورة فنية لأصحابها، وللإذاعة المصرية التي لم يكن في مقدورها أن تقتصر على عملين أو ثلاثة، وفي هذا التراث الإذاعي الضخم تتراكم أغنيات لفلسطين، بأصوات كل نجوم الطرب في عقدي الخمسينيات والستينيات.


في داخل فلسطين، خلقت المأساة أبطالها الفنيين، وأنتجت غناءها الخاص، وقدّمت أصوات الممثلين الغنائيين للشعب والقضية، وبرزت أسماء مهمة، تركت بصماتها على الوجدان الفلسطيني. وفي قائمة هذه الأسماء يتقدم إبراهيم محمد صالح، الشهير بأبو عرب، والملقب بشاعر المخيمات، ويراه أكثر الباحثين ممثّل الذاكرة الحية للتراث الغنائي الفلسطيني. كما يأتي في مكان متقدم أيضاً مهدي سردانة، صاحب الأغنية الشهيرة "بلدي الحلوة غزة"، وملحن "جر المدفع"، و"لغة البارود"، و"أذن يا رصاص الثورة"، و"العواصف الأسيرة"، و"النصر إلك يا شعب"، و"المعركة"، و"حنا ثوارك يا بلادي"، و"طل سلاحي". وضمن هذه الطبقة العالية يأتي مصطفى الكرد، صاحب الرحلة الفنية الممتدة عبر خمسة عقود، وقرّر مبكّراً أن يقصر عطاءه الموسيقي والغنائي والمسرحي على التعريف بقضية الشعب الفلسطيني، والحض على مقاومة المحتل، وأن يكون إبداعه المتواصل في تطوير "الغناء المقاوم" لا غير.


وفي الأجيال التالية والمعاصرة، برزت ظاهرة الفرق، ذات الطابع الحداثي، أو التي تقدم التراث الفلسطيني متوازياً مع الغناء المعاصر، وصولاً إلى فرق الروك والميتال، أي التي تقدم غناء أو عزفاً بطابع غربي صرف. وكان لغزة نصيب مهم في هذا النمط الحديث، ربما بدرجة أكبر من الفرق المغرقة في التراث القديم، ومن تلك الفرق الغزاوية فرقة "صول" التي حققت نجاحاً لافتاً، بعد أن قرّرت أن تصور بعض الأغنيات الشهيرة بين الأبنية التي هدمها القصف الإسرائيلي، ما أعطى الكلمات وقعاً مؤثراً على المشاهد.
وفي غزة أيضاً، نشأت فرقة "وتر" التي تقدّم نمطاً أكثر حداثة، وأقرب إلى الأشكال الغنائية الرائجة بين الشباب. أصدرت الفرقة ألبومهما الأول بعنوان "غريب هنا" عام 2015 ، ثم تلاه الألبوم الثاني عام 2019 بعنوان "30 ألف شغلة"، وكلا الألبومين من إنتاج مركز غزة للثقافة والفنون.
"وتر" هي أول فرقة أندرغراوند تنشأ في غزة، وتتسم موسيقاها بالمزج بين أشكال متنوعة للبوب والروك. ومن المهم الإشارة إلى فرق: "دواوين"، التي اشتهرت كثيراً بعد أن أقامت حفلاً موسيقياً أمام معبر "إيريز"، وغنّى أعضاؤها لمدة ساعتين، بعدما وضعوا أمامهم كراسي خالية، كتبوا عليها عبارة "جمهور القدس". وأيضاً "أوركسترا غزة" التابعة لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، التي تميل إلى مخاطبة العالم بلغة تحمل معاني السلام والتسامح، لا عبارات الثورة المباشرة.
وعلى غير ما يتوقعه أكثر المهتمين، كان مطربو الراب والميتال وحتى "المهرجانات" الأسرع في استجابتهم الغنائية تفاعلاً مع اندلاع الحرب في غزة. وفي الأسابيع الأولى بعد عملية طوفان الأقصى، كان هؤلاء المطربون قد أنتجوا عشرات الأغنيات مساندة لأهل غزة. وتمثيلاً، يمكن للمتابع أن يتذكر أغنية "قلبي بيتقطع على فلسطين" التي أطلقها مطرب المهرجانات محمد عزب، الشهير بـ"أبو الشوق زعيم ميكانيكا الفن"، أو مهرجان "قصة فلسطين" الذي أداه حودة منعم فور بدء الحرب بتلحين مشترك لميجو مكس وإسلام كريزي. كما كان للمطرب أمير قاسم إسهام متميز، إذ قدم ما يمكن اعتباره مهرجاناً درامياً، يحكي فيه قصة يهودي جاء إلى فلسطيني طالباً الضيافة لسويعات قليلة، فرحب به الأخير وأكرمه، لكن زيارة اليهودي استمرت عامين، ثم رفض المغادرة زاعماً امتلاكه للمكان والأرض، متوعّداً الفلسطيني بالتهجير تحت تهديد السلاح. كما غنى الفنان الشعبي المصري وائل زياد "أنا حزين نفسي أشوفكم منصورين.. راجعين معاكم رايات النصر وفرحانين".

وأطلق مغني الراب الأردني علاء حمدان أغنيته التضامنية "نيران طوفان الأقصى" بعد أيام قليلة من تصاعد الحرب. تقول: "طوفان.. عدونا حيران.. حاربنا لاجل دين وقرآن.. وما في استسلام.. والآن بنرد الصاع.. بألف بركان.. عدونا ينهان". ومن أغنيات الراب التي صدرت في مصر بعد نحو أسبوعين من عملية طوفان الأقصى، "أخويا فلسطيني" من كلمات وموسيقى وغناء الشاب مصطفى النسر، ابن منطقة المقطم في القاهرة، كتب وغنى قائلاً: "إنتو استهونتوا بالدم.. أنا أخويا فلسطيني بس ماليش أي ولاد عم.. فينا رجالة ما تخافش الموت هنا ما بنندمش.. يوم 7 في تل كان نبذة بسيطة بس ما تحلمش.. إن القضية تتلم".
وجاء أكبر عمل لمغنّي الراب المصريين من فرقة "راب شارع" التي أنتجت فيديو يتضمن 11 أغنية تضامنية مع الشعب الفلسطيني، قدمها 11 مغنياً مع مجموعة كبيرة من المردّدين أكثرهم من الشباب والمراهقين، بل من الأطفال. بدأ الفيديو بهتاف شعبي انتشر في مصر مع بدء الحرب على غزة، ويحمل كلمات ضد إسرائيل بعضها لا يصلح للنشر العام. ومع الإقرار بأن الألفاظ "النابية" قد تكون مانعاً من قبول قطاعات جماهيرية لهذا النمط الغنائي، لكنها أيضاً تكون في كثير من الأحيان سبباً للانتشار بين الشباب، ولا سيما من أصحاب النزوع نحو الثورة والتمرّد، وهو ما يفسر اطّراد تلك الألفاظ في معظم أغنيات الراب المتضامنة مع فلسطين.
وأصدرت فِرقة "مسار إجباريّ" المصرية أغنية "روح الروح"، تأثراً بعبارة الشيخ الغزي خالد نبهان، وهو يودع حفيدته التي استشهدت مع أخيها في قصف إسرائيلي. وفي مصر أيضاً، قدمت فرقة كاريوكي أغنية "تلك قضية"، التي تسخر من ازدواجية الغرب، ويقول مطلعها: "ينقذ في سلاحف بحرية.. يقتل حيوانات بشرية.. تلك قضية وتلك قضية.. كيف تكون ملاكاً أبيض؟ يبقى ضميرك نص ضمير.. تنصف حركات الحرية.. وتنسف حركات التحرير".
ثم توالت الأعمال الغنائية المتفاعلة مع الأحداث، ومنها: "أنشودة الطوفان" للفنان اللبناني محمد حسين خليل، وتتحدث كلماتها عن "وعد الله" الذي اقترب بالتحرير، وأيضاً أغنية المنشد السوري عماد رامي: "طوفان الأقصى أتاكم". كما سجل المطرب اليمني أيوب طارش أغنية يقول مطلعها: "واصل زحفك من غير تأخير.. فوراً نصرك جيش التحرير".
ويبدو أن توقف النشاط الفني في غزة بسبب الحرب، وإلغاء كثير من الفعاليات الفنية في الضفة الغربية أوجد انطباعاً لدى كثير من المتابعين بأن الفن الغنائي الفلسطيني لم يتفاعل بالقدر المنتظر مع الأحداث الجسام في القطاع. والحقيقة أن حجم الدمار والأهوال والصدمة ورائحة الموت كان أكبر من أن يسمح لمطربي القطاع وموسيقييه بأي إنتاج فني. كما أن كثيراً من الموسيقيين الذي استطاعوا الخروج من غزة لم تتوفر لهم وسائل الإنتاج الفني، وفي مقدمتها الآلات الموسيقية، وأماكن البروفات والتسجيل.

ومن جوانب التضامن الفني التي لم تحظ برصد مستحق، حضور القضية الفلسطينية ومأساة غزة وشعبها في معظم محافل الإنشاد الديني والابتهالات في الفجر وفي المناسبات الدينية. كما أن معظم البرامج الغنائية على مسارح القاهرة حكومية كانت أم أهلية أصبحت تتضمن أغنية أو أكثر تعبر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني.
ولا ريب أنه يصعب حصر الأعمال الغنائية المتضامنة مع شعب غزة، أو تتبع الإنتاج الغنائي الذي واكب الحرب، لأن طوفان الأقصى فجّر معه طوفاناً غنائياً موازياً، رفضاً للجرائم الإسرائيلية، وتعاطفاً مع الضحايا الأبرياء في القطاع المنكوب.

المساهمون