أغاني موسم الحج: القلب يعشق كلّ جميل

28 يونيو 2023
تشدو أم كلثوم مصورة الجنة التي ينالها المؤمنون (فرانس برس)
+ الخط -

على هامش الطبيعة الروحانية للحج، وفي قلبها أحياناً، يبرز الإنشاد والغناء تعبيراً عن تعلق المسلمين بهذا الركن الأساسي من دينهم، وعن فرحتهم الكبرى بأدائه، مختلطة بالخشوع والتقرّب من الله والنبي محمّد. بعيداً عن الإنشاد ذي الصبغة الدينية الخالصة، فإنّ الأغاني، لا سيما الشعبية، بما تحمل من طابع عفوي شفوي متوارث، وإن سُجلت لاحقاً، تستحضر مختلف عناصر رحلة الحج، من التجهيز لها إلى السفر والوصول إلى مكة، ثم المدينة المنورة، وما بين العاصمتين المقدستين من مشاعر من طواف وتلبية، وسعي، ورجم، وتضحية وغيرها.
لعلّ أبرز أغنية شعبية في هذا الإطار، تبقى تلك الموروثة منذ عهد بعيد في مصر، وغنتها قديماً فاطمة عيد، بعنوان "رايحة فين يا حجة؟". وقبل سنوات، أعاد كلٌّ من رباب ناجي وهلا رشدي غناءها بصيغة مختلفة قليلاً. في الأغنية، مدائح نبوية معهودة كما في الصلاة على النبي المتكررة، وعبارات من قبيل "كان يلاغي القمر محمد وبيفهم لغاتو". لكنّ الجانب الاجتماعي واضح من خلال سؤال الحاجة المسافرة سؤالاً بلاغياً: "رايحة فين يا حجة يا أم شال قطيفة؟"؛ ما يدلّ على طريقة لبسها وإلى حدّ ما بيئتها المجتمعية، ومن خلال الإجابات البريئة التي تدلّ على الإيمان الشعبي البسيط، من قبيل "رايحة زور النبي محمد والكعبة الشريفة"، أو الطلب من فاطمة الزهراء ابنة الرسول أن تفتح للحجيج الباب كي يزوروا والدها "فاطمة يا فاطمة يا بنت نبينا افتحي البوابة دا بوكي داعينا"، أو تحميلها الدعاء "وادعيلنا يا حجة وانتي على عرفات وبتزوري النبي الغالي وبترمي الجمرات". كما أنّ فيها جانباً تعليمياً ابتدائياً، في ذكر المشاعر المقدسة، من الصلوات والدعاء ورمي الجمرات وجبل عرفات وبئر زمزم وغيرها.


تعبّر الأغاني في كثير من الأحيان عن الشوق إلى زيارة المشاعر المقدسة وأداء الحج، كما في أغنية ليلى مراد "يا رايحين للنبي الغالي" (1953، كلمات أبو السعود الإبياري، ألحان رياض السنباطي) التي تتخيل فيها المشاعر المقدسة كما لو كانت تحج فعلاً: "يا ريتني كنت وياكم، وأروح للهدى وأزوره، وأبوس من شوقي شباكه، وقلبي يتملي بنوره، وأحج وأطوف سبع مرات، والبّي واشوف منى وعرفات، واقول ربي كتبهالي"، أو في أغنية أسمهان "عليك صلاة الله وسلامه" (1943، كلمات بديع خيري، ألحان فريد الأطرش) إذ تقول: "كرامة لله يا قاصد مكة ونيتك بالكعبة تطوف، تبوسلي فيها تراب السكة أمانة من مؤمن ملهوف".


كثرت في السنوات الأخيرة الأغاني الدينية التي تضع كلماتها على ألحان أغانٍ معروفة، ما يسهّل على الناس تردادها وحفظ كلماتها البسيطة. ولعلّ واحدة من الأشهر "على طيبة يلا نروح"، على لحن أغنية "يا حبيّب ما أنساك". في هذه الأغنية، أو الأنشودة كما يفضل مغنوها ومرددوها، تتغير الكلمات وتتمذهب، بحسب كل مؤدٍّ، لكن تجمعها زيارة المدينة المنورة (طيبة) حيث قبر النبي محمد (حبيب الروح)، لتتكرر أبيات المديح النبوي، وتتفرع أحياناً إلى أهل بيت الرسول. وهنالك كذلك أنشودة شهيرة بالفصحى، للمنشدة عنان الخياط، بعنوان "يا طيبة"، تتحدث عن تأخرها عن ركب الحج وحسرتها بسبب ذلك، لتتمنى بعدها الوصول إلى مكة: "يا تُرى هل تراني ناظر للكعبة وتغمرني بأمانا؟".
لكن، بالعودة إلى الأغاني الأصلية، قدم وائل جسار أغنية لافتة عن الحج، قبل أعوام، سبق بها ألبومين دينيين، مطلع كلماتها من التراث الشعبي، تحديداً من هدهدات الأمهات لأطفالهن، ما ينقلنا إلى مشهد من فيلم "المرأة المجهولة" (1959، إخراج محمود ذو الفقار) حيث تهدهد فاطمة (شادية) ابنها الباكي: "حج حجيج بيت الله والكعبة ورسول الله". حاكى الشاعر التراث لكنّه غاص في عقيدة الرؤيا، وهي المرتبطة بأن يرى النائم الرسول، وأحياناً آل بيته في منامه، تبعاً لحديث: "من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثل في صورتي". فتقول الأغنية استكمالاً للهدهدة: "... ابني ينام فرحان يا حمام، سيدنا محمد في الأحلام، يجبر خاطره بإذن الله، يديله تمرة في منديله، في الفجرية بيدعيله، يضحكله ويلعب ويّاه". ولا تنسى الأغنية أن تذكر الشريحة الأكبر من البشر، خصوصاً في موسم الحج وما فيه من أضاحٍ وصدقات، إذ تمرّ فيها عبارة "ربّ حنيّن ع الفقرا..." كأنّها من دون سياق مباشر، لكنّها لا شكّ تتكامل مع مختلف الصفات النبوية والإلهية الواردة فيها، والممتزجة بذائقة الجمهور.


ولا بدّ من ذكر أغاني عودة الحجيج إلى ديارهم، ولعلّ إحدى أبرزها وأجملها وقعاً أغنية الجزائري لزهر الجيلالي (2017) وفيها ما يليق بمهرجان كامل يتغنى بموسم الحج ويستقبل العائد بالتهاليل والزغاريد والطبل والزمر. ويأتي على ذكر طقس استقبال الحجيج في المطار، كما الهدايا التي يحملونها معهم من الديار المقدسة من سبح وشاشيات (من المطرزات التراثية)... وبركة، في قالب حماسي راقص، لا يغفل عن طلب الدعاء من الحجيج، ولا عن أمنيات زيارة مكة والمدينة مستقبلاً.

في معظم الأغاني المرتبطة بالحج سمة مشتركة، هي التقرب من النبي محمد وزيارة الأماكن التي كان فيها، واتباع سنّته، لكنّ أغنية أم كلثوم "القلب يعشق كلّ جميل" (1972، كلمات محمود بيرم التونسي، ألحان رياض السنباطي) تشكل ما يشبه ثورة، إذ تتجه مباشرة إلى الله، سواء في المناجاة أو في التوبة وطلب المغفرة الصريح. وهي بهذا الحال، لا تعبر فقط عن الشاعر (1893- 1961) والملحن (1906- 1981) والمطربة (1908- 1975)، وهم في أواخر أيام حياتهم، بل عن جمهور عريض جداً، يجد في تلك الكلمات بمعناها ومغناها خير تعزية لحُسن ختام مأمول.

ولا سيما حين تشدو أم كلثوم مصورة الجنة التي ينالها المؤمنون: "جينا على روضة هالة من الجنة، فيها الأحبة تنول كلّ اللي تتمنى، فيها طرب وسرور وفيها نور على نور، وكاس محبة يدور واللي شرب غنى، وملايكة الرحمن كانت لنا ندمان، بالصفح والغفران جايّة تبشرنا".

في هذه الأغنية التي تبدأ كما لو كانت عاطفية بين حبيب ومحبوبته، لكنّها سرعان ما تنقلب على الطريقة الصوفية إلى مناجاة الله الحبيب الأول والأخير، حديثٌ رباني مباشر إلى الإنسان، يذكّره على لسان الشاعر بعلّة وجوده بحسب العقيدة: "طاوعني يا عبدي طاوعني أنا وحدي، مالك حبيب غيري قبلي ولا بعدي، أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم، وأنا اللي علمتك من غير ما تتعلم، واللي هديته إليك لو تحسبه بإيديك، تشوف جمايلي عليك من كلّ شيء أعظم، سلم لنا تسلم".

أما وصف الحج ومكة والكعبة، فهو وصف خبير به، يأتي على الأشكال الخارجية ويفصّل فيها: "فوقنا حمام الحمى عدد نجوم السما، طاير علينا يطوف ألوف تتابع ألوف"، لكنّه يغوص أكثر في ما وراء الوصف: "واللي نظم سيره (الحمام) واحد ما فيش غيره (الله) دعاني لبّيته لحدّ باب بيته". واللازمة المتكررة بكلمات مختلفة كلّ مرة هي طلب العفو والمغفرة "دخلنا باب السلام غمر قلوبنا السلام بعفو رب غفور"، "طاير يهنّي الضيوف بالعفو والمرحمة"، "يا ريت حبايبنا ينولو ما نلنا، يا رب توعدهم، يا رب واقبلنا".
هذه عينة من أشهر الأغاني فحسب، وسواء ما ذُكر أو ما لم يُذكر، فإنّه يعبّر بعنوانه العريض عن الأهمية القصوى لموسم الحج بكامل عناصره، لدى المسلمين، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. وتبقى الكلمات والألحان والأصوات الشجية النافذة التي يترجم فيها هؤلاء كلّ تلك الأحاسيس التي يختبرونها، أو يتمنون اختبارها، في رحلة العمر تلك.

المساهمون