في جديده "أشياء فقيرة" لا يبتعد اليوناني يورغوس لانتيموس، كثيراً، عن مفهوم السينما الخالصة، بعناصره كلّها: تمثيل وسيناريو وتصوير وديكور ومونتاج وتصميم مناظر وملابس، وغيرها. كذلك يُلاحَظ تكامل هذه العناصر/المكوّنات، وتناغمها وعملها، بانسجامٍ أسلوبي بارع ولافت للانتباه، طول مدّته (141دقيقة). هذا رغم المزج الواضح لأنواع وثيمات سينمائية مختلفة، نادراً ما تجتمع معاً: خيال علمي ورومانسية ومغامرات وكوميديا سوداء وفانتازيا وتمرّد، وإحالات على أعمال في تاريخ السينما، بشكلٍ غير مباشر.
لكنْ، تصعب ترجمة العنوان الإنكليزي للفيلم، Poor Things، إلى "أشياء بائسة"، لأنّه لا توجد أشياء ولا كائنات/مخلوقات بائسة، بل على عكس ذلك، هناك تمرّد وانقلاب مصائر. لا يوجد فقر، ولا مفردة "مسكينة"، كأنْ يُقال مثلاً: "كائنات مسكينة". هذا كلّه غير موجود. لذا، يبدو الأنسب أنْ يُترجَم العنوان حَرفياً ومُبَاشَرةً: "أشياء فقيرة".
أياً يكن، فإنّ أيّ مُتابعٍ لمسيرة لانتيموس، منذ أفلامه اليونانية الباكرة ذات الميزانيات المُنخفضة، يتعجّب ليس فقط من العوالم الغريبة والجريئة التي يتناولها، بل من ابتعاد فيلميه الأخيرين، "المُفضّلة" (2018) و"أشياء فقيرة" (2023) كلّياً عن الزُّهد والتقشّف، وعن الأسلوب المميّز والطاغي في أفلامه السابقة، رغم تشابه الأفكار والطروحات، وعوالم الشخصيات وهمومها، وما يؤرقها، في جُلّ أعماله.
قياساً إلى مواضيع أفلامه السابقة، وأساليبه المتنوّعة والاستفزازية في طرح أفكاره ومعالجتها، يُعتَبر "أشياء فقيرة" فيلماً جدّياً للغاية، رغم أنه الأكثر ترفيهاً في مسيرته، ومع ذلك، الأكثر وحشية وغرابةً وطموحاً من "المُفضّلة"، رغم الاستعانة بكاتب السيناريو نفسه، توني مَكْنامارا. ففي "أشياء فقيرة"، يكسر لانتيموس المزيدَ من الحدود، ويقلب افتراضاتنا وتوقّعاتنا المعهودة عنه، باعتباره، منذ أعوام، مخرجاً مكرّساً لأفلامٍ مُظلمة للغاية، ومُمعنة في الغرابة، وسوداوية جداً. كذلك يُمكن وصف جديده بأنّه الأكثر تفاؤلاً وترفيهاً وبذخاً ووضوحاً في سيرته المهنية، أقلّه إلى الآن.
يتناول "أشياء فقيرة"، الفائز بـ"الأسد الذهبي" في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، قضايا عدّة، أهمها: السُّلْطة الأبوية والملكية والذكورية والتمرّد والبحث عن الذات والحرية الجنسية. في حوارات عرضية، يطرح تأمّلات فلسفية عميقة وساخرة عن الحياة والطبيعة البشرية وفكرة الخلق نفسها والسياسة والاجتماع، من دون تعقيد أو مُبالغة. الأهمّ أنّ هذا كلّه يأتي في حبكة مُقنعة، تتميّز بالجدّة والذكاء والأصالة في تقديم الشخصيات، وتناول المواضيع، في إطار تشويقي جذّاب، يبتعد كثيراً عن الافتعال والتكلّف.
يبدأ "أشياء فقيرة" ـ المستلّ من رواية بالعنوان نفسه (1992) للاسكتلندي ألسْدِر غراي (1934 ـ 2019)، مصحوبة برسومات مُصوّرة ـ بافتتاحيةٍ غامضة قليلاً، يغلب عليها اللون الأزرق المخملي، وتُظهر امرأة تُرى من الخلف، ترتدي فستاناً أزرق مذهلاً، وتقفز من جسر. ثم انتقال إلى لندن الفيكتورية، الغريبة جداً، فالأحداث تحصل أواخر القرن الـ19، مع التحوّل إلى الأسود والأبيض، والإكثار من زوايا تصوير بعدسات مُقعّرة وتوظيفها، ولقطات مُقرّبة غريبة للغاية.
في هذا الجزء، تنحصر الأحداث بين كلية الطب والتشريح. فيها، نتعرّف إلى الجرّاح العبقري مُشوّه الوجه، نتيجة تجارب لاإنسانية أجراها والده عليه، غادوين باكستر (وليام دِفَو)، وتلميذه الوديع والمجتهد ماكس ماكاندْلِس (رامي يوسف). تمضي معظمها في منزل الطبيب، والمُختبر الملحق به، حيث تتجوّل بحريةٍ حيوانات مُركَّبة، غريبة للغاية: كلب برأس دجاجة، إوزّة برأس خنزير، مخلوق نصفه بطّة ونصفه الآخر ماعز، إلخ. من بينها، تظهر سجينة المنزل ـ المختبر، المغلق والمحصَّن، الطفلة/المرأة بيلا (إيما ستون)، التي لا تزال تتعامل مع كلّ شيء حولها بنزقٍ طفولي غريب، رغم نضجها الجسدي. يتجلّى هذا في تصرّفاتها الخرقاء، وطريقة مَشيها، ومحاولاتها المُتعثرة للنطق بكلامٍ مفهوم.
لرغبته في الاحتفاظ بسجل دقيق عن تقدّم حالة/تجربة بيلا، يطلب باكستر من تلميذه مُراقبة سلوكها اليومي. تدريجياً، يُلاحظ ماكس، بسعادة ودهشة بالِغَين، كيف تتحوّل خطوات الطفلة/المرأة، الغريبة الخرقاء إلى مشية أكثر ثقة وتوازناً؛ ويتتبّع اكتسابها المفردات أكثر، يوماً تلو آخر. يحاول السيطرة على دوافعها الجامحة، ونزقها وعنادها، وثورات غضبها العنيفة ونوبات التدمير، التي تنتابها بين حينٍ وآخر. هناك، أخيراً، محاولة الجميع التعامل مع صدمة اكتشاف بيلا المفاجئة للجنس، بعد ملامستها ما بين ساقيها، وتعرّفها إلى مُتعة العادة السرّية.
لعدم وجود أفكار مُسبقة عن القواعد السلوكية والاجتماعية والمحرّمات، وعن قواعد اللياقة واللباقة؛ ولشدّة براءتها ونقص مُفرداتها وقدرتها على صوغ تعابير مُلائمة، "تقذف" بيلا ما يرد على ذهنها، بلا تردّد وخجل وتفكير. تجلّى هذا أكثر بعد ممارستها العادة السرية، بسهولة وأريحية وانفتاح، ورغبتها الجامحة في مشاركتها الجميع الإثارة، واللذة المجانية المُصاحبة لها: "دعونا نلمس الأعضاء التناسلية لبعضنا البعض"، تقول. ثم ينقلب الأمر، من جانبها، إلى تساؤلات مصحوبة بحيرة بالغة: "لماذا لا يُمارس الناس هذا طول الوقت؟". تُدْهَش عندما يُقال لها إنّها لا تستطيع التحدّث عن أشياء كهذه في أماكن عامة، ولا مناقشتها، وطبعاً عدم فعلها عَلَناً.
بعد هذا، تشعر بيلا باضطراب وحيرة إزاء تظاهر البشر بعدم وجود هذه المُتعة، المُتوافرة بسهولة. وهذا أول تناقض يحرّض عقلها على التفكير والتأمل، ويُؤجّج رغبتها في التمرّد.
رغم ذهوله من التصرّفات غير المُتوقعة لهذه الطفلة/المرأة، التي تضرب البيانو بيديها وساقيها، وترمي فطورها عليه، وتُحطّم الأطباق، وتبصق في الطعام، وتُثرثر طول الوقت؛ يُغرم ماكس بها، ويطلب من غادوين الزواج منها، حتى بعد معرفته حقيقة إنقاذه لها، وإعادته إياها إلى الحياة، بعد زرع عقل جنينها في رأسها. يوافق غادوين فوراً، ويستدعي المحامي دَنْكِن وَدِربِرن (مارك رَفالو) لتسوية الأمر. لكن دَنْكِن، اللعوب القادم بامتياز من سينما الأسود والأبيض، يستغلّ براءة بيلا وشبقها، فيغويها بالهروب معه، والخروج من المنزل، واكتشاف العالم الرحب خارجه. رغبةٌ كهذه تاقت إليها بيلا دائماً، لكنّ غادوين كان يقمعها بقوّة وقسوة. ولأنّها لا ترى تعارضاً بين الموافقة على زواجها من ماكس والهروب مع دَنْكِن، تنطلق في مغامرتها بكلّ طاقتها، فيسافران في رحلة استكشافية مذهلة، ومتحرّرة من الزمان والمكان. رحلة تُعيد إلى الأذهان تجربة "أليس في بلاد العجائب".
هنا، يتحوّل "أشياء فقيرة"، في نصف الثاني، إلى الألوان النابضة بالحياة، التي تبلغ جرأة صارخة في بعض المشاهد. تتبدّل البنى البصرية والإخراجية إلى حدّ بعيد، كما يختلف تصميم المناظر تماماً، إذْ تبدو غالبيتها مصنوعة بالكمبيوتر، ما يوحي بأجواء "ألعاب الفيديو"، وما يُشبهها. ولعلّ هذا كلّه محاولة لمحاكاة الرواية المُصوّرة، أو الاقتراب من أجوائها. فكرة ليست أصيلة، وربما أضرّت الفيلم، رغم جماليات خيالية وتنفيذية عدّة.
تبدأ الرحلة السريالية لبيلا دَنْكِن من ليشبونة المُشمسة، التي يمكثان فيها وقتاً قليلاً. تُعتبر مشاهد البرتغال أكثر اللحظات المُضحكة في الفيلم، خصوصاً عندما يُحاول دَنْكِن السيطرة على جموح بيلا، عند تناولهما العشاء مع وجهاء، وفي رقصتها العفوية، ومحاولته، غير المجدية، السيطرة/الحَدّ على/من تحرّكاتها المجنونة. لاحقاً، يستقلّان سفينة بخارية متوجّهة إلى الإسكندرية.
رحلةٌ كهذه تفتح عينَيْ بيلا على القسوة والمعاناة والفقر. وبفضل رفقةٍ في السفينة، تتعرّف إلى كتبٍ، وتقرأ بنَهَمٍ. ما تشهده من ألمٍ وموت وبؤس يفتح عينيها على حقائق مُفزعة، كانت تجهلها، ويدفعها إلى التفكير في جعل العالم أفضل، وإنْ تطلّب الأمر تضحيات.
أخيراً، يصلان إلى باريس، بعد إفلاسٍ بسبب تصرّفاتها. هناك، يظهر تدريجياً تطوّر استخدامها المنطق والعقل، وإنْ ظلّ أسلوبها في التعامل مزعجاً وخشناً ووحشياً أحياناً. كذلك يرتقي تحرّرها إلى مُستويات أخرى، مُغايرة وصادمة. مثلاً، إزاء الإفلاس، لا تجد بيلا غضاضة في "التعهّر"، فتصبح المُفضّلة لـ"زائري" بيت الدعارة. هناك، في أحد أطول أجزاء الفيلم، تُصادق زميلة اشتراكية، تُطلعها على جانب آخر من الحياة والفكر والجنس، ما يُساهم في اطّلاعها على المزيد. ثم تصلها رسالة من ماكس عن تدهور صحّة غادوين، فتعود إلى لندن. لكنّ عودتها هذه مُغايرة تماماً، خصوصاً بعد تشكيلها/خلقها لنفسها من لا شيء، وفقاً لقواعدها الخاصة، وبعد تحرّرها من كل سُلطة.
يُعتبر "أشياء فقيرة " وليمة صاخبة من المشاهد والأفكار والشخصيات، الرئيسية والثانوية. لكنْ، مع كلّ تقدير للخبرة والعمر والأداء الرائع، يبقى تمثيل إيما ستون مُذهلاً ومتفرّداً، إلى حدّ يمكن القول معه إنّه "فيلم إيما ستون"، شخصيةً وأداءً. تكفي براعتها في تشكيل شخصية بيلا، ونموّها وتطوّرها من الطفولة والمراهقة إلى البلوغ، بكلامها وسلوكها ولغة جسدها. تطوّر مُعقّدٌ أدائياً، من مشهد إلى آخر. وأيضاً، تعاملها مع الكوميديا، وخصوصاً المشاهد المُتعلّقة بالجنس، لأنّ أي أداء أقلّ جرأة لم يكن سينجح ويُقنع.
أمورٌ كهذه لا تُحسب فقط إلى براعة السيناريو والحوار، ولا إلى استغلال لانتيموس، البارع، لموهبة ستون إلى أقصى حَدّ، بل أساساً إلى تفوّقها. وذلك في أحد أغرب أدوارها، وربما أفضلها وأكثرها اختلافاً، إلى الآن.