حول نظرة الجيل الجديد لتركيا المعاصرة، وكيف يراها في ظلّ التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراهنة، يرتكز "أشباح" (2020)، للتركية أزرا دينيز أوكياي (1983). دراما بانورامية موجزة، ترصد ثنائيات عدّة، تموج الآن في المجتمع التركي، وتمزج الخاص بالعام، والآنيّ بالمستقبليّ، وتُقدِّم الجيل الجديد كما ينظر إليه الجيل القديم، والعكس أيضاً.
في يوم واحد في أكتوبر/ تشرين الأول، تروي أوكياي ـ عبر 4 أربع قصص منفصلة وشبه متّصلة ـ الأحداث نفسها تقريباً، لكنْ من وجهات نظر مُختلفة. أبطالها، أو بالأحرى أشباحها المجازية، شخصيات تُقيم في حَيٍّ متداعٍ في اسطنبول. في النهاية، تجتمع الخيوط كلّها عبر شخصيات مشتركة، وتتلاقى التفاصيل الصغيرة، مُشكِّلةً الصورة الكبرى. عندها، تنجلي الرؤية، وتتوضّح أسباب ظهور تلك الشخصيات، والغرض من سرد قصصها.
جزءٌ من نجاح هذا النسيج، المتضافر والمحبوك جيداً، عائدٌ إلى الكتابة الجيدة للسيناريو (أوكياي)؛ لكنّه يُعزى أساساً إلى دور التوليف، للمونتيرة والممثلة إيريس ألبتكين، وإلى الطريقة السلسلة وغير المتكلِّفة ولا المُعقّدة، التي اعتمدتها في توليف القصص، والوصول بالأحداث إلى ذروتها، من دون أيّ لبس أو إرباك للمُشاهدين، بل بأسلوبٍ زاد مُتعة المُشاهدة، وأضفى على الفيلم تشويقاً كثيراً.
في مشهد افتتاح "أشباح" ـ الفائز بالجائزة الكبرى لمسابقة "أسبوع النقاد"، في الدورة الـ 77(2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ هناك نشرات إذاعية موجزة تُحذِّر المستمعين: "اسطنبول تحوّلت إلى منطقة حرب"، و"انقطاع الكهرباء عن أنحاء المدينة لأسبابٍ مجهولة"، وكلام عن اندلاع أعمال شغب ونهب. خلال الفيلم، تُسمع في الخلفية، بين حينٍ وآخر، أصوات سيارات شرطة وعربات إسعاف وطائرات مروحية. هناك نقاط تفتيش مُنتشرة على الطرقات، وإشارات تُحيل إلى أنّ جديداً يتشكّل على أنقاض واقع قديم، مُقلق ومُتزعزع، يزول. لذا، يتكرّر الكلام عن "تركيا جديدة"، بالمعنيين السلبي والإيجابي.
إلى القلق المُخيّم على الأجواء وضبابية الوضع والمستقبل الغامض، تُكشَف مظاهر الفقر والتضييق والسلطة والرقابة والتحرّش. وكذلك قضية اللاجئين السوريين، والقبضة البوليسية، والتظاهرات، وحقوق المرأة، وقضايا ساخنة أخرى تغلي في المجتمع. رغم هذا، لا تميل أوكياي إلى وجهة نظر معيّنة، ولا تُدين أيّ جانب، بل تكتفي باستعراض الأحوال، متأمّلة بها برويّة، من دون مُباشرة أو طرحٍ مُقحم أو إثقالٍ على السياق والإيقاع.
هناك مصداقية كبيرة في الطرح، وفنيّة جيّدة تنفيذاً وأداءً. مع هذا، فإنّ "أشباح" ـ الفائز أيضاً بجائزة النقّاد كأفضل فيلم روائي أول، في الدورة الـ36 (9 ـ 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان وارسو السينمائي الدولي"، وبأكثر من جائزة، بينها أفضل فيلم وإخراج ومونتاج، في الدورة الـ57 (3 ـ 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الكرة الذهبية بأنطاليا" ـ لم يرتقِ، رغم جودته كتجربة أولى، إلى مستوى الإبهار كثيراً، بجوانبه المختلفة.
المُراهقة ديلم (ديلايدا جونس) تحبّ الرقص الإيقاعي. ذات صباح، تُطرد من عملها في فندقٍ. تحلم بالفوز، مع رفيقاتها، بمسابقة لرقصة الـ"هيب هوب"، وبتكوين فرقة خاصة بها، والعيش بحرية قدر الإمكان. يبدو هذا مُتناقضاً مع الواقع المُعاش، أو ربما طريقتها الخاصة للتعاطي مع الحياة، وقسوة الواقع والمجتمع، وربما المستقبل أيضاً، عبر الفن والانغماس فيه.
في الحَيّ نفسه، تُقيم إيفت (نالان كوروتشيم). في منتصف العمر، تعمل في التنظيف. تحاول، بوسائل عدّة، اقتراض 2000 دولار أميركي لابنها المسجون. خلفيتها مجهولة تقريباً، كأسباب سجن ابنها الشاب. المعروف عنه، بحسب تأكيداتها، أنّه مظلوم، وأنّها مؤمنة جداً ببراءته. ترغب في الحصول على المال لإنقاذه من أشرارٍ يُهدّدونه في السجن.
يُعتَبر راسيت (إمراح أوزدمير) نموذجاً لطبقة جديدة من السرطانات المنتشرة في المجتمع التركي، إذْ يقوم بأعمالٍ مسموح بها وبأخرى ممنوعة. يؤجِّر عقارات باهظة الثمن للاجئين سوريين، يُخفيهم بعيداً عن أعين رجال الشرطة. "يحلب" أموالهم القليلة، مقابل حشرهم معاً في غرف ضيّقة ومُكتظّة؛ ويتسلّل ليلاً إلى بنايات قديمة خالية أو آيلة إلى السقوط، وبعضها تاريخيّ وأثريّ، فيعمل على تفجيرها. تنهار البنايات، وتُباع أراضيها لشركات عقارية كبرى، تُشيِّد أبراجاً سكينة شاهقة مكانها، في الحيّ، وفي أحياء أخرى أيضاً: "تشييد تركيا القديمة بلمسة عصرية حديثة"، كما يروِّج راسيت، في إعلاناته عن تلك الأبراج.
إيلا (بيريل كيار) فنانة تجريبية وناشطة نسوية شابّة. تعتني بأطفال الحيّ، وباللاجئين والسكان المُنهارة منازلهم. تُشارك في الاعتصامات والتظاهرات والفعاليات السياسية، خاصة المُتعلّقة بالدفاع عن المرأة، وعن حقوق وحريات، وتشاطر الشباب المتمرّدين أفكارهم وأنشطتهم بهمّة وحماسة، من دون مُبالاة بتهديدات راسيت وغيره من سكّان الحي، ومن رجال شرطة يُراقبون الأنشطة، في ظلّ أوضاع أمنية متفلّتة في البلد.
رغم تاريخها الطويل، الذي يتجاوز 100 عام (أول فيلم تُركي أُنجز عام 1914)، والحافل بأفلامٍ وجوائز، وبمخرجين كبار، وبمهرجانات مرموقة، تفتقر السينما التركية إلى مخرجات كثيرات، بارزات أو لا، ولهنّ بصمات أو لا، فعددهنّ يكاد لا يتجاوز الـ10. لذا، تبرز أهمية "أشباح"، أول روائي طويل لأزرا دينيز أوكياي، بعد أفلامٍ قصيرة ووثائقية، منذ اشتغالها في السينما بدءاً من عام 2002، وحصولها على جوائز عدّة. فالفيلم خطوة تُمهِّد الطريق أمام أقرانها من المخرجات، وغيرها من الأجيال المقبلة، المنتميات إلى تركيا الجديدة.