"أشباحي وأنا" لغبريال بيرن: الانطوائي والمتواضع يكشف ذاته

"أشباحي وأنا" لغبريال بيرن: الانطوائي والمتواضع يكشف ذاته

21 نوفمبر 2022
غبريال بيرن: "حياة لا تُنسى" (فيتّوريو تْزونينو تْشيلوتّو/Getty)
+ الخط -

 

كتاب جديدٌ صادر في باريس قبل أسابيع قليلة، يروي فيه الإيرلندي غبريال بيرن، الممثل والكاتب والسيناريست والمخرج والمنتج السينمائي، فصولاً من مذكّراته/ سيرته الذاتية والمهنية والحياتية، واضعاً له عنوان "أشباحي وأنا" ("منشورات سابين وايسبايسر"، مجموعة "الأدب الأجنبي"، 2022)، مستعيداً فيه ما يعتبره الأنسب لسرده، فكتابة نصوصٍ كهذه لن تشتمل على "كلّ شيءٍ"، ففي "كلّ شيءٍ" مسائل وأحداث وتفاصيل يُفضِّل صاحبها الاحتفاظ بها لنفسه، لأسباب خاصة به.

مواليد "راثْماينْس" (3 كلم جنوبي وسط مدينة دبلن)، في 12 مايو/ أيار 1950، سيكون بيرن الابن البكر والأخ الأكبر لـ5 أشقاء وشقيقات. والده صانع براميل البيرة في معامل "غينيس" (بيرة سوداء إيرلندية)، ووالدته ممرّضة. طفلٌ انطوائي، سيعثر باكراً على ملجأ له في الخيال، وسط التلال المحيطة بمنزله العائلي حينها، وفي صالات السينما، التي ترافقه جدّته إليها دائماً. عند بلوغه 11 عاماً، يستجيب لنداء الكهنوت، شاعراً، يومها، بأنّه "مُبشّر" فعلاً. لكنّه يُصاب سريعاً بخيبة أمل، بمعرفته أنّ فريق كرة القدم في "برمينغهام"، المدينة الأقرب إلى المؤسّسة الدينية التي سيمضي فيها 4 أعوام من حياته، متراجعٌ إلى المرتبة الثانية. لاحقاً يُطرد من المؤسّسة نفسها بسبب تمرّده، فيجد نفسه، وعمره 15 عاماً، في مسقط رأسه، يعمل في مهنٍ صغيرة، ويحصد فشلاً تلو آخر: "أشعرُ بالفشل والخسارة، كسمكريّ وككاهن"، كما يكتب في "أشباحي وأنا".

شغفه بالسينما والمسرح، حيث يمضي جزءاً أساسياً من وقته الحرّ، مُشجّع له على التغلّب على خجله، ثم على انضمامه لاحقاً إلى فرقة هواة: "قرارٌ كهذا سيُغيّر حياته كلّها"، كما قيل مراراً في كتابات متفرّقة عنه، قبل أنْ يذكره، هو نفسه، في كتابه هذا، وإنْ بشكلٍ مواربٍ. مشاهدته أفلاماً كثيرة في صالات دبلن ستكون، أحياناً عدّة، برفقة أصدقاء له، يُقلّدون، جميعهم، رعاة البقر، علماً أنّ تأديته دور راعي بقر في مسلسل تلفزيوني بعنوان The Riordians، بعد نحو 20 عاماً، سيُطلقه في التمثيل: سلسلة تلفزيونية عن عائلة فلاحين في إيرلندا، يُشاهدها الجميع من دون استثناء، على القناة التلفزيونية الوحيدة حينها، إلى حدّ أنّ الأعمال برمّتها تتوقّف عند عرض كلّ حلقة منها.

دوره هذا سيُشهره كثيراً. لكنّ الإنكليزي جون بورمان (1933)، الذي يُشاهده ذات مرّة على خشبة المسرح، يقترح عليه دوراً في فيلم يُعدّه، بعنوان Excalibur.

 

 

"مع ذلك، كتابه هذا لا يحتوي على شيءٍ من مذكّرات نجم، حيث تتشابك حكايات مفيدة وتتلاحق"، كما في تعليقات صحافية ونقدية متفرّقة، تُشدِّد على أنّ الكتاب يتضمّن "عكس هذا كلّه تماماً". بانياً نصّه بطريقة غير خطّية، يعود غبريال بيرن دائماً إلى "الولد الذي كانه"، ذاكراً مراراً تعلّقه بعائلته، ومستحضراً "شخصيات غريبة" يلتقيها في حيّه، مُعترفاً بأنّها "أول من جعلني أحبّ المسرح". وحين تحضر في النص أبرز أحداث حياته كممثل، فإنّه يرويها (الأحداث) بدعابة رصينة ومتينة. مثلٌ أول: تدريباته على ركوب الخيل في "هايد بارك"، مع أميركية تشتم وتلعن كأيّ سائق/سائقة عربة، "تجعله يرى فيها آفا غاردنر". مثلٌ ثانٍ: "الحفلة التي لا تُنسى"، مع ريتشارد بورتون (1925 ـ 1984)، على شرفة قصر "غْريتّي" في فينيسيا، بعد تعرّضه لتشوّهاتٍ، بسبب حريقٍ اندلع في استوديو تصوير مسلسل في "فاغنر"، كان يؤدّي فيه دوراً صغيراً.

يكتب أنّه "عاملٌ" مع بعض أكبر نجوم العالم، أمثال بورتون وإيان ريتشاردسن (1934 ـ 2007) ولورانس أوليفييه (1907 ـ 1989) وفال غيلغود (1900 ـ 1981) وفانيسا ريدغريف (1937): "أو، على الأقلّ، أستطيعُ مشاهدتهم وهم يمثّلون، إذْ لديّ 10 أسطر لقولها في 6 بلدان مختلفة". يقول إنّه غير مُرتاحٍ مع الشهرة، إلى حدّ هروبه من مهرجان "كانّ"، في دورته الـ48 (17 ـ 28 مايو/ أيار 1995)، في لحظة تسليط الكاميرات كلّها عليه، في حفلة عرض The Usual Suspects لبراين سينغر. مع هذا، لا يُخفي بيرن شيئاً، رغم حياء ورزانة عميقين فيه، متحدّثاً عن انجرافاته وقلقه، وعن إدمانه الكحول أيضاً.

متميّزاً بجودة نصّه وسلاسة بنائه، يُعتبر هذا الكتاب المؤثّر - حيث الاستهزاء/ السخرية من الذات يتصارع مع قوّة شعرية حقيقية - اعترافاً رائعاً عن "ازدواجية المجد"، وفي الوقت نفسه شهادة تكريم جميلة جداً لأناسٍ يدين لهم بكلّ شيءٍ، كما يدين بكلّ شيءٍ أيضاً لـ"المَشَاهد العائلية" التي يختبرها في طفولته ومراهقته وأول شبابه.