أسماء المدير (1/ 2): ما وراء الصُور حكايات تستحق أنْ تُروى

14 أكتوبر 2022
أسماء المدير: "اكتشفتُ هناك أنّي أنا الحزينة والبائسة" (الملف الصحافي)
+ الخط -

مخرجة شابّة، تؤكّد ممارستُها الفنية وأفكارها أنّ لديها شغفاً حقيقياً بالسينما. تمتلك التحدّي والقدرة على خلق لغة سينمائية بمفردات هامسة، ضمن الـ"ميزانسين"، من تأطير الكادرات وتكوينها، وحركة الكاميرا وزواياها. الأهمّ، إحساسها وموهبتها في الكشف عن جوهر الناس في البادية، بعيداً عن الكليشيهات الاستشراقية الرائجة عن الفقر والفقراء. كما لعبت دوراً في تبديل وتغيير بعض معتقدات أهل المكان، فحقّقت نجاحاً نقدياً، وحصدت جوائز عدّة، دولية وعربية، عن فيلمها الأول "في زاوية أمي"، في تورنتو وتطوان وخريبكة.

فيلمٌ في ثلاثية سينمائية، اثنان منها في مرحلة ما بعد الإنتاج. المخرجة المغربية أسماء المدير لا تزال تخطو خطواتها الأولى في الفنّ السابع. شغف يتجلّى عبر مغامرتها بهذا الفيلم، ومواصلة العمل على الجزئين الآخرين. ربما يُفسّر هذا دعم جهات إنتاجية مهمّة، كـ"الجزيرة الوثائقية" ومنصّة "نتفليكس"، لاستكمال مشاريع هذه السينمائية الواعدة، التي تواصل رحلاتها الذاتية، تنقيباً عن الجذور في الجزء المعنون بـ"كذب أبيض"، إذْ تبحث فيه عن الحقيقة، لتكتشف شبكة أكاذيب عن ماضي عائلتها. أثناء ذلك، تدمج المدير تاريخها الخاص بتاريخ بلدها، في تناولها "انتفاضة الخبز" عام 1981، وتربطها بالحاضر المغربي.

في الدورة الـ27 (10 ـ 17 يونيو/ حزيران 2022) لـ"مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط"، فاز "في زاوية أمّي" بجائزة أفضل فيلم وثائقي

 

(*) قبل حكايتك مع الـ"كارت بوستال"، أو البطاقة البريدية السياحية، الذي ينطلق منه الفيلم، ألم يكن هناك شيء خاص بوالدتك، جعلك تفكرين في إنجاز فيلمٍ عنها، وسرد حكايتها؟

لم تكن لدينا صُوَر فوتوغرافية للعائلة. كانت جدتي تقول إنّ التصوير حرام. هذا الـ"كارت بوستال" كنّا نستخدمه كعلامة في الكتاب عند التوقّف عن القراءة. أحياناً، يُلقى في القمامة، ثم نعيده مُجدّداً. كانت أمي تقول: "هنا ولدت. لكنّي لا أذكر أي شيء عن المكان"، فعائلتها من الرُحّل، يتنقّلون باستمرار. أخذتُ هذه البطاقة السياحية، وسافرتُ إلى الوادي لأصنع فيلماً عن أمّي، وعن المكان الذي ولدَتْ فيه، بحثاً عن العائلة والجذور. لكنّ هذا لم يصنع فيلماً. استغرق الأمر وقتاً طويلاً جداً. ثم تخلّصتُ من كل ما صوّرته.

 

(*) لماذا؟

لأنّي أدركتُ أنّ الفيلم ليس عنّي، وأنّ هناك قصصاً أخرى أهمّ من حكايتي. ثم قابلتُ شخصية أم العيد. كانت إلى جواري في الوادي، والمسافة بيننا تقترب دائماً أكثر فأكثر، إلى أنْ التقينا، وأصبحتْ بجواري تماماً. بدأنا نتحدّث، فحكَتْ لي قصّتها. هنا، شعرتُ أنّ قصّتها أهمّ كثيراً من حكايتنا، أمّي وأنا، ومن كل الخزعبلات الأخرى التي أتيتُ بها إلى القرية.

 

(*) أعتقدُ أنّك وجدتِ فيها شيئاً من أمّك. أو بالأحرى تمكّنتِ من سرد قصّتكما، أمّك وأنتِ، بشكل غير مباشر، من خلال شخصية أم العيد. أنتِ تؤكّدين ذلك في التعليق الصوتي في الفيلم.

نعم. أسقطتُ قصّتي عليهما. قلتُ: لو عشتُ هناك، لو أنّ أمي عاشت هناك، فماذا سيكون مصيرها، وبالتالي مصيري؟ أسقطتُ فرضية "ماذا لو لم تخرج أمي من الـ(كارت بوستال)، وظلّت تعيش في تلك القرية، أو ذاك الوادي؟". المشكلة أنّ الـ"كارت بوستال"، الذي يشتريه السائح، له معنى مختلف تماماً. حين نتأمّل ما وراء الصورة، نجد حكايات تستحقّ أنْ تُروى. هناك قسوة في الطبيعة والحياة. مع ذلك، اكتشفتُ هناك أنّي أنا الحزينة والبائسة، بينما النساء يعشن ويتعايشن مع الوضع، وكلّ شيء بالنسبة إليهنّ جميلٌ، بينما لم أنجح في التأقلم مع الوضع.

 

(*) أعتقد أنّ التوتّرَ سببُ الحزن والشعور بالبؤس، لأنّك غير قادرة على تحمل الوضع، كلّما فكّرت في مصيرك الافتراضي؟

لأنّي كنتُ أسأل دائماً: ماذا لو لم أولد أسماء، وكنتُ أنا أم العيد؟ كذلك، كنتُ أرغبُ في تكسير الصورة النمطية عن هذا المكان. فالبعض يقول أنْ لا فائدة في البادية، لأنّ الناس لا تقرأ، ولا يُوجد حبّ، والناس متباعدون، وهناك اغتصاب، والناس في الصحراء لا يعيشون حياتهم كما يعيش أهل المدينة، وأهل البادية يعزفون عن الدراسة. في الفيلم، أردتُ القول إنّ هذا غير صحيح. شخصية أم العيد مُعاكسة تماماً لهذه الصورة النمطية. كانت تدرس. تُحبّ الحياة، وتتطلّع إلى المستقبل. المرّة الأولى التي خرجت فيها من "الزاوية"، ورأت المدينة، كانت لإكمال تعليمها (في نهاية الفيلم ـ المحرّر). هذا، بالنسبة إليّ، انتصارٌ، لأنّ تلك المرأة المُقيمة في بقعةٍ من الجبل، حاولتُ تغيير شيءٍ من أجلها، حين جئتُ أنا بالكاميرا، ونجحتُ في ذلك. ليس الأمر أنّي سجّلت حكايتها وصوّرتها فقط، فهي الآن تدرس في الجامعة. هذا جميلٌ.

 

 

(*) لكنّ أم العيد، بمفردها، لم تكن لتنجح في الخروج من "الزاوية". أنتِ لعبت دوراً في ذلك، عبر تشجيعها.

صراحةً، أدركتُ أنّها، بكلّ قوّة شخصيتها، لا تملك مصيرها، لأنّ الأخ سلطةٌ هناك، وهو يُقرّر. مصيرها ليس بيدها بل بيد الأخ الأكبر. لذلك، شجّعتُ الأخ شرايبي. كنتُ أحاول إقناعه بأنّه إذا استكملَتْ أم العيد الدراسة، فهذا لا يعني أنّها ستخرج وتصبح فتاة مثلي. إذا كنتَ أنتَ تخشى من أنْ تصبح مثلي، أو شكلي، فهذا لن يحدث. على العكس. أم العيد إذا درسَتْ ستُغيّر حياتكم أنتم أيضاً، لا حياتها فقط. اشتغلتُ على تغيير فكر الأخ، وتغيير فكره صعبٌ جداً. حتّى أنّ وضع الكاميرا في بيته للتصوير مع أخته صعبٌ جداً. موافقته لاحقاً انتصارٌ آخر لي.

 

(*) رغم التصوير الجميل للطبيعة، كأنّها كائن حي، هناك مشهد في البداية يُحيل إلى رؤية استشراقية بعض الشيء. مشهد الاحتفال بمولد أحد الشيوخ، يُحيل إلى الطابع الفولكلوري، رغم أنّ الفيلم لا يسير في هذا الاتجاه لاحقاً. لكنْ، أسألك: لماذا قرّرت تضمينه في الفيلم ولم تستبعديه تماماً؟ لماذا وضعته في البداية؟ هل لأنّ الجهة المنتجة لعبت دوراً في ذلك؟ معروفٌ أنّ "الجزيرة الوثائقية" تتدخّل في "السياسة التحريرية" للأفلام التي تشارك في إنتاجها.

لم تتدخّل "الجزيرة الوثائقية" في الإبداعيّ. على العكس، منحتني حرية كاملة، لأنّ الفيلم ضمن "العدسة الحرة"، كإنتاج مشترك. لم أصوّر الفقر والأب المريض، فصُوَر الفقر والفقراء موجودة في أماكن كثيرة. الناس يجتمعون في مشهد سنوي احتفالي بمولد أحد الشيوخ، ويقدّمون لبعضهم تلك الهدية. وضعته في المقدمة لأنّه، بذلك، يكون أقصر زمنياً. كان يهمّني أنْ أؤكّد به على التآزر والتلاحم بين أهل هذا المكان وتلك القبيلة، لأنّه يحمل دلالة الانتماء وصلة الرحم، وبه أنتقل من العام إلى الخاص.

قبل الدخول في حكاية أم العيد، بدأتُ مع هؤلاء الناس. لو أجَّلتُ المشهد إلى المنتصف، أو إلى أي مرحلة لاحقة، سيُحيل إلى معنى استشراقي، وإلى فكرة أنّ هؤلاء الناس "إكزوتيك"، وهذا يُسحر الغرب. لذلك، وضعته في البداية. أردتُ أنْ تكون الزاوية مرتفعة للتعريف بالمكان، والتأكيد على أنّ هذه ليست حكاية الفيلم بل قصّة أم العيد. لو وُضع بعد التعرّف إليها وإلى أهلها، سيتمّ إسقاط ذلك عليهم، والقول إنّهم يمارسون هذه الاستشراقية.

 

(*) ما التحدّي الذي واجهك، بخلاف ذلك؟

على العكس. هناك أشياء جميلة، كالطبيعة وأم العيد، وشخصيات نسائية أخرى، كتودة وعائشة. لكلّ واحدة منهنّ حياتها وشخصيتها الخاصة. أنا أيضاً، أسماء المدير، لي حياتي وشخصيتي، وحاولتُ تغيير أشياء وأفكار مُعَقّدة.

 

(*) مثل ماذا؟

إذا سبَحَتْ النساء في الوادي، يُثار الرجال والشباب. ستكون السباحةُ غوايةً. غامرتُ وخضتُ التحدّي لأنْفِي فكرة أنّ المرأة إذا سبَحَتْ تكون غير جيّدة. قدّمتُ نفسي قرباناً بالسباحة أولاً. يقول المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي: "السينما فنّ مُعقّد. يجب أنّ نُقدّم ذواتنا قرباناً له". لذلك، سبحتُ أنا أولاً، وأعطيتُ الجميع خبرة وتجربة. مرّ يومان، ولم يحدث شيء من خيالاتهم وتوقّعاتهم.​​

المساهمون