"أسترويد سيتي" لوِس أندرسن: فضاءات أصلية

24 يوليو 2023
وس أندرسن: أسلوب يحاكي علبة عزف موسيقى (ستيفان كاردينالي/Corbis-Getty)
+ الخط -

 

بعد أن سَبَر ثيمات التفرّد والابتكارية والثورة على السائد، بموشور مقالات متنوّعة، وكواليس تحرير مجلّة شاملة، في فيلمه التجميعي الخلاب "ذا فرانش ديسباتش" (2021)، يدفع وِس أندرسن (1969)، في فيلمه الطويل الـ11، "أسترويد سيتي" (2023)، بحالة "التوحّد" الفني، التي تسم أفلامه الأخيرة، إلى حدود جديدة، بضربه بكلّ معايير السرد الاعتيادي عرض الحائط، مُخلصاً لكتابة فصلية (سيناريو أندرسن ورومان كوبولا)، تضع فكرة تمثّل القصص والشخصيات في السينما وجهاً لوجه مع التقاليد العريقة لمسرح "برودواي"، لإنجاز تبئير مرآوي مُتعدّد الأبعاد.

وهذا ربما يُسبّب دواراً، أو انفصالاً لمن يعتمدون على معلم القصّة، ورهان درامي محدّد في علاقتهم بالأفلام، فلا يجدون غير سعي إلى تماسك داخلي هشّ (مثل لاعبي السيرك) بين تعدّد أصوات، وتعقيد تفاصيل، وتشظّي دلالات، وسيلةً لقول أشياء بالغة الحساسية، عن ثيمة الحِداد، ببُعديها الشخصي المتعلّق بالفقدان (الفراغ الذي يتركه هذا الأخير فكرة محورية حاضرة بقوّة في فيلموغرافيا أندرسن، خاصة في "رَشمور" عام 1998، و"الحياة المائية رفقة ستيف زيسّو" عام 2004، و"دارجيلينغ ليميتد" عام 2007)، والفلسفي المرتبط بالتعايش مع العبثية الجذابة للحياة، وتقبّل الإنسان لمكانته في معادلة وجودٍ مترامية الأطراف، تحيل عليها الصحراء، وفراغ الحفرة الناجمة عن سقوط الحجر النيزكي الماثلة وسطها.

إنّه عام 1955، في "أسترويد سيتي"، مدينة صحراوية صغيرة من وحي الخيال، يلتقي فيها تلاميذ مراهقون وفائقو الذّكاء وأهاليهم بمناسبة مسابقة بين المشاريع المقدّمة، للفوز بمنح دراسة تُنظّم على هامش ملتقى لهواة مراقبة الفضاء. لكنّ أحداثاً غرائبية، ذات بُعد كوني، تُعرقل مجرى الأحداث. أوغي ستينبك (جايزون شوارتزمان)، مُصوّر حروب يصل المدينة في سيارته رفقة ابنه وودرو (جاك راين)، المشارك في المسابقة، وطفلاته الـ3 الشقراوات المتشابهات، مُثقَلاً بالحزن من فقدان زوجته، وعجزه عن إعلان خبر وفاتها لأبنائه. تتعطّل السيارة، فيأخذها أوغي إلى الميكانيكي (مات ديلون)، الذي يخبره أن هناك إمكانيتين: العطل بسيط، يكفي تعويض قطعة بأخرى لإصلاح السيارة، أو أنّ السيارة تهالكت، ولا يُفيد تغيير القطع. لكنّ قطعة من محرّكها تقع على الأرض، وتتلّوى كأنّ جنوناً مَسّها، فاندهش الجميع.

هكذا، يعزف "أسترويد سيتي"، منذ البداية، نغمة الغرابة التي تطبع أفلام الكائنات الفضائية، حين تعلن الأخيرة عن حضورها، في مرحلةٍ أولى، عبر خلل تتركه في سير الأشياء.

مُنجز العبقري وِس أندرسن برمّته يُمكن أنْ يكون جواباً على تساؤل سيرج داني، عطفاً على الناقد الأدبي جان بولهان: "كيف تكون السينما حين تمنحنا، على غرار الأدب الرفيع، العالم، كأنّنا لسنا جزءاً منه؟". ذلك أنّ أسلوبه يحاكي علبة عزف موسيقى (دقيقة وملوّنة ومعقّدة)، تنتج عوالم غريبة ومألوفة في الآن نفسه، ولا تتّخذ محدّداتٍ للزمان (بين الحربين العالميتين، مايو/أيار 1968، إلخ) والمكان (أميركا، فرنسا، اليابان، الهند، وغيرها) إلّا لكي تخلق، انطلاقاً منها، فضاءات أصلية، وأجواءً استثنائية، من دون حاجةٍ إلى بهارات فانتازية، بفضل عبقرية المخرج في هندسة الديكور، وانزياح رؤيته الفنّية، ما يضعه في مكان ما بين "خالق عوالم" بارع آخر، هو تيم بورتون، وعرّاب التوحّد الفني بامتياز جاك تاتي، حتى نكاد نجد في فيلميه الأخيرين تأثّراً بنزوع الجهبذ الفرنسي في "بلاي تايم" (1967) و"ترافيك" (1971) إلى أعمالٍ ـ عوالم تنبذ قوالب السّرد الجاهزة، وديكتاتورية الحبكة.

"داينر"؛ موتيل يقيم فيه الأطفال الموهوبون رفقة أهاليهم، إضافة إلى متمدرسين حلّوا رفقة معلّمتهم ليحضروا الحدث المتزامن مع كسوف شمسي؛ محطّة بنزين؛ حفرة هائلة ناجمة من سقوط حجر نيزكي، مَنح المدينة اسمها؛ محطّة لمراقبة الفضاء، يرتادها علماء مُكرّسون؛ جزءٌ من طريق سيّار معلّق، لا يؤدّي إلى أي مكان (هذا أكثر التفاصيل مينيمالية أو مسرحية)؛ صحراء شاسعة على امتداد البصر.

هذا كلّ ما احتاج إليه أندرسن لتشييد "أسترويد سيتي"، متسلّحاً بشغف الاهتمام الدقيق بالتفاصيل (تشكيلات جبلية، نبات الصبّار، لوحات مكتوبة، آلات توزيع الصودا والحلويات و... الأراضي)، المحيلة إلى مدينة تكساسية صغيرة، من أواسط القرن الماضي، مضفياً عليها ألوان الباستيل (إضاءة مرتفعة وتشبّع منخفض)، قبل أنْ يعمرها بكاستينغ فاخر (أكثر من عادته في الأفلام السابقة)، حتى بات صعباً ذكر كلّ نجوم التمثيل المشاركين في الفيلم.

 

 

أشياء قليلة في السينما الحديثة يمكن أنْ تضاهي، في جمالها، اللقطات التي تظهر الشخصيات على موائد الـ"داينر"، تحت الشرفات، بينما تنعكس على وجوههم معيّنات صغيرة، يصنعها ضوء الشمس حين يمرّ من زخارف السقف، كما في لوحتين (1876) للفرنسي بيار أوغُست رونوار، "الأرجوحة" وBal Du Moulin De La Galette، ما يثير الاهتمام لكون وس أندرسن من أشدّ المعجبين بأفلام جان رونوار، ابن الرسّام، حيث قرّر إنجاز فيلم في الهند ("دارجيلينغ ليميتد") منذ مشاهدته "النهر" (1951).

ينشأ تقارب بين أوغي وميتش كامبل (سكارليت يوهانسون)، ممثلة فاتنة، تعيش على حافة الاكتئاب (كيف لا نفكّر في "غير الملائمين"، The Misfits، لجون هيوستن، 1961)، وترافق ابنتها الموهوبة، وتستغلّ فترة الإقامة للتمرّن على دورٍ لا يخلو من القتامة. يقارب المخرج هذا التقارب، ككلّ الثنائيات الأخرى في الفيلم، بمسافة تحضر في الصورة التي يلتقطها أوغي في أول لقاء، تترسّخ في جمالية اللقطة الثابتة والتقابل عن بعد، ليبلغ أوجه في مشهد الحوار البديع عبر نافذتي الـ"بانغالو" الخاص بكليهما (جمالية الإطار في الإطار)، حيث يلتقط أوغي صورة لها على مشارف حوض الاستحمام (تحيل إلى الصورة الوحيدة التي يحتفظ بها لزوجته المتوفّاة)، قبل أنْ يعلّقها في مشهد موالٍ إلى جانب صورة الكائن الفضائي، في تماثل خلّاق، يخلط موضوع الرغبة بمصدر الرهبة.

لكنّ العلاقة مع كامبل ليست مصدر الانشغال الوحيد لأوغي. فما إنْ يُخبر أولاده عن وفاة والدتهم، حتى تطفو على السطح عزلته الوجودية، الناجمة عن تعقيد علاقته بعائلته، وعجزه عن إقامة الحداد على شريكته. هناك مقطع جميل يلتقط اختلاف الأجيال، وأطوار تعلّم الإنسان من تجارب الحياة، في تباين طباع المُراهق وودرو بردّة فعله المكبوحة على الخبر (دمعة وحيدة تنزل على خدّه، قبل أنْ يفصح لاحقاً عن فقدانه الإيمان)، وحماسة الجدّ (توم هانكس في أول تعاون له مع أندرسن)، ليشمل أحفاده بحبّه، لأنّ هذا لا يزال يربطه بالحياة، قبل أن يُفاجَأ بالبون الشاسع الذي يفصله عن عالم الفتيات الـ3، المتنكّرات في زيّ ساحرات، عند عزمهنّ على دفن رماد الأمّ، بينما يعلق أوغي (كالشخصيات الأندرسونية الأصيلة) في مساحةٍ بين كلّ ذلك، باحثاً عن معنى للحياة يتشبّث به، لإتمام المشوار.

يسبق ظهور الأحداث بالألوان تقديمٌ بالأسود والأبيض، على شكل برنامج تلفزيوني من خمسينيات القرن الـ20، يُخبِر فيه المقدّم (براين كرانستون) أنّ ما سنراه عبارة عن مسرحية من 3 فصول، قبل استعراض جوانب من كواليس المسرحية، ورؤية مؤلّفها كونراد إيرب (إدوارد نورتون). مقاطعٌ من البرنامج تتخلّل فصول الفيلم، لتغوص للحظات في استعدادات الطاقم الفني ـ التقني للمسرحية، فنكتشف بفضلها قصة حبّ بين المؤلّف والممثل، الذي يؤدّي دور أوغي. حين ينعي المقدّم، لاحقاً، وفاة المؤلّف، يتبدّى نسق التبئير المرآوي (حِداد أوغي في الكواليس، الذي يجد امتداده على الشاشة/فوق الخشبة).

في أحد أفضل المَشاهد، يعبر أوغي الخطّ الفاصل بين العالمين، ويقابل مخرج المسرحية (أدريان برودي)، ويسأله عن معنى المسرحية، فيجيبه الأخير أنّ المعنى لا يهمّ، وأنّ كلّ ما عليه أنْ يستمرّ في الحكي. يتقدّم إلى خلفية المسرح، ويجد نفسه أمام الممثلة (مارغو روبي)، التي أدّت سابقاً دور زوجته في المسرحية، تطلّ عليه من شرفة مسرح مجاور. بغضّ النظر عن رجع الصدى الذي يخلقه هذا المشهد، مع تقابل أوغي/ميتش في المشهد السابق، يبدو كلقاءٍ بين رجلٍ وزوجته المنبعثة من عالم الأموات. يناديها أوغي بجملةٍ مؤثّرة بتلعثمها الصادق: "أنتِ الزوجة التي أدّت دور ممثلتي"، قبل أنْ يساعده حوارهما على إيجاد الطريق الصحيحة لمواصلة سعيه، الذي يمرّ حتماً بجملة حوار أخرى، تحمل نفحة تأثير غوستاف يونغ ("من ينظر إلى الخارج يحلم، ومن ينظر إلى الداخل يستفيق)، يُكرّرها ممثّلو المسرحية في درس التمثيل: "لا يمكن أنْ تستيقظ قبل أنْ تستسلم للنوم".

يحقّق وس أندرسن، بـ"أسترويد سيتي"، فيلماً شديد البهاء، يُشاهَد بابتسامةٍ عريضة، وانقباضٍ طفيفٍ في القلب. شهابٌ يثلج الصدر بعضويته وسخائه المتفرّد في زمن الـ"بلاكباستر" المقولب، وفظاعات الأبطال الخارقين المتشابهة في غبائها. لا يزال ممكناً مشاهدة مخرج يخلق عالماً حجراً فوق حجر، ونبات صبّار وراء آخر، وسط صحراء إسبانيا، بدلاً من وضع ممثّلين موصولين بأسلاك أمام شاشة خضراء. لا ضير في التقنية بحدّ ذاتها، لكنّ تواتر الإخفاقات، التي تمخّضت عنها بدافع السهولة والربح السريع، أضحى محبطاً. ولعلّ التقارير الإخبارية الأميركية، التي تؤكّد التفوّق البيّن لـ"أسترويد سيتي"، ذي الميزانية المتوسّطة، على الجزء الأخير من ساغا "المتحوّلين"، في شباك التذاكر المحلي، تكفي وحدها لبعث الأمل في مستقبل مشرق لسينما تُراهن على ذكاء المُشاهد حين تخاطب حسّه الرفيع.

المساهمون