منذ المَشاهد الأولى لـ"أرض مرتفعة" (2020)، تتبدّى رغبة المُخرج الأسترالي ستيفن ماكسويل جونسون في خلق كاميرا مُلتصقة بمسام الإنسان وجرحه. فالكاميرا، دائمة التجوّل والتوغّل، ترصد ما يجول في بيئة ونفوس ومعتقدات، يُظنُّ أنّها أصبحت بائدة، لكنّها تحضر في الفيلم، وتقول إنّ الحاضر ليس دائماً مُتحضّراً ونقيّاً ومُميّزاً. في هذه الصورة المعاصرة، تظهر صُور قبيحة عن هشاشة عالمٍ وارتباك ناسه، وهم يمارسون عنفاً وتنكيلاً بحقّ بعضهم البعض.
الصورة السينمائية لا تكتفي بالإظهار الفني لواقعين، يتناقض أحدهما مع الآخر: الأول يُحاول أنْ يعيش بطمأنينة وسلامٍ، والثاني مُنفعلٌ إزاء الأوّل القديم (المُتوحّش)، يسعى جاهداً إلى نفيه، والقضاء على ما تبقّى من سلالته وأنصاره، وسلبه حقّ العيش.
بطشٌ ودمٌ وعنفٌ وموتٌ دائم، مُفرداتٌ بصرية، يتوسّل بها جونسون اجتراح صورة سينمائية، تُدين مكائد الواقع، وقُبحَ البشر، وبشاعة استعمارٍ يفرض قوانينه بأبشع طرق ممكنة على السكّان الأصليين. هؤلاء يبذلون جهداً كبيراً في إقناع الضابط، مُمثِّل الإمبراطورية البريطانية، بأنّه غريبٌ في أرضٍ يعتبرها مُلكاً له. ورغم البُعد الحيادي، الذي يتميّز به جونسون، يفضح توالي مَشاهد عنيفة ـ بأبعادها الرمزية التي تقدح تاريخ الإنسان في علاقته بالأرض والفضاء ـ نيّته وقدرته على رصد آلامٍ فردية، تجتاح الإنسان المُستَعْمَر من أشخاصٍ أو جماعات؛ ويجعل خطابه النقديّ مُبطّناً، في بنية الحكي، وطبقات السرد.
هذا النقد يخفتُ سريعاً لصالح قصّةٍ، تلتهم بين حينٍ وآخر مَكر الصورة، عبر لذّة الأحداث وتسلسلها، وإخضاعها لمفهوم الحكي وسطوته.
لكنْ، ما الذي يرغب ستيفن جونسون في حكيه؟
في مَشاهد كثيرة، تتسرّب رؤيته المُحايدة في قضية الاستعمار. الصُور تتدفّق سريعاً، ويطفح بعض لاوعيه، الرافض لمفاهيم الاستيطان والقانون والتبعية والملكية والدولة، لصالح حرية مُتمرّدة وثائرة على شكل حياة ونمط عيش، يسلبان السكان الأصليين أراضيهم وحقوقهم كبشر. يلامس قضية العنف الاستعماري، بسلاسة مُتحرّرة من الرؤية المركزية الغربية، التي تُقيّد مسار أفلام طويلة، تطرق المكبوت الاستعماري وتأثيره على الشعوب الأصلية في الحصول على حريتها، باعترافٍ محلي دولي يُقرّر مصيرها، لا ككيانات مُنفصلة عن مركزية الدولة فقط، بل كأعضاء مُلتحمة، تنتمي إلى جسد واحد.
لكنّ معالجته تختلف على أكثر من صعيد:
أولاً: يتجنّب كليشيهات بصرية ومُؤثّرات صوتية، تُحاول تجميل صُور استعمارية مُفبركة، وطرق معالجتها، جاعلاً الكاميرا أداة تلتقط تفاصيل أجساد هشّة وتاريخ عنيف، وتغدو ملامحه راهناً مُؤثّراً في حياة طفل وعائلته وجماعته، في منطقة وعرة ومنسية؛ خاصّة أنّ رفض المُخرج لكلّ هذه الأشكال اللاحضارية يتجلّى نظرياً في شخصية كلير (كارين بيستوريوس)، وسلوكاً مع ترافيس (سيمون بيكر)، الذي لا يُطيع مديره في العمل، بعد هجوم وحشيّ ودمويّ من الشرطة على تجمّعات عائلية، وقتلها باسم الأمن والقانون.
ثانياً: التخلّص من الرطانة الإثنولوجية التحقيرية لعادات وتقاليد شعوب قديمة، بإظهاره أكثر من مرّة السكّان الأصليين باعتبارهم نموذجاً أصلياً مُسالماً وبعيداً عن الصُوَر الغرائبية، التي نحتتها السينما الكولونيالية في مُخيّلة المُشاهِد.
تبدأ الحكاية هادئة ومنسابة بشكل فني وميكانيكي، في استكناه أمزجة وذوات ونفوس. في المشاهد الأولى، يتمّ التعرّف على الشخصيات، مع حكاية تحصل في أراضٍ أسترالية مُستعمرة، تخضع لضباط بريطانيين، يحرصون على أمن المنطقة، رغم مظاهر العبث والاحتقار والمذلة، التي يُبديها الضباط تجاه السكان الأصليين، وقتلهم والتنكيل بهم. هذا يُبعِد الضابط ترافيس عن زملائه 12 عاماً. بسرعة، ينتقل المخرج إلى المستوى الثاني، ومعه، تنتقل الصورة من خطيّتها إلى تباين أنماطها الفنية، عبر صور أكثر إدانة للاستعمار.
يكبر الطفل غوتجوك، اليتيم والناجي من المذبحة بفضل ترافيس، وتُصبح الصورة السينمائية أكثر قلقاً من قبل. تتغيّر حركة الكاميرا من اهتمامها بالطفل إلى اهتمامها بترافيس وثورته على الشركة، من أجل نجاة الطفل وحقّه في العودة إلى عائلته، شرط مُساعدة ترافيس على إلقاء القبض على بايوارا، الذي قاد أعواماً طويلة هجمات وحشية ضد مستوطنين، وقتله امرأة بيضاء.
لذّة السيناريو مُنبثقة من خفّة السرد وعدم تكلّفه، وتحرّره بشكل كبير من سطوة الصورة الاستعمارية، لصالح كتابة تلهث وراء المُلغّز، وتحفر في اللامفكّر به في الاجتماع. السيناريو يُتيح للمُخرج إمكانية كتابة جديدة، لا تُقيم في التاريخ وويلاته، بل تتطلّع بعنفوان إلى كتابة أركيولوجية، تكشف وتفضح وتنتقد وتُفكّك بنية التفكير الأوّل عن مصير هذه الجماعات في الدولة.
يكتب "أرضٌ مرتفعة" تاريخاً مُضادّاً للمتوفر من ميثولوجيات وأساطير. تلعب أنثروبولوجيا الصورة دوراً مهمّاً في توفير إمكانات مُذهلة، أشبه بذخيرة منهجية لتفكيك مجتمعين، تقليدي وعصري، يلهثان وراء وسائل التحديث. حضورها في الفيلم يتجاوز صُوَرها وأنماطها التقليدية، وحتّى أبعادها وترسّباتها في التفكير الغربي، باعتبارها ثقافة مُتراكمة، تحتوي على التصوّرات والمُمارسات المختلفة كلّها، التي تكتسي طابعاً هامشياً في مورفولوجية الصورة.
الصورة عند جونسون مُتحرّرة بشكل كبير من هذا الموروث الأنثروبولوجي في السينما، الذي يُقدّم الماضي بوصفه مُتوحّشاً وفوضوياً وبربرياً، ويروم عبر صُوَر سينمائية متتالية إلى خلخلة هذا المنظور السينمائي، محاولاً فرض تصوّر جديد خاصّ بهذا النوع من الأفلام السينمائية، التي تستكنه التاريخ، وتعمل على تخييله، بمفاهيم وأدوات أنثروبولوجية، لكنْ من دون أنْ تجعل من منجزها الفني والجمالي فولكلوراً وماضياً.